…بلا سبب!
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
يعيش الناس- والمثقّفون منهم- في وئام وانسجام، أو خلاف وخصومة، أو تقوم في ما بينهم علاقات رسميّة تراتبيّة مسؤولة جادّة، أو يتعاملون بحياديّة ولا مبالاة وعدم اهتمام؛ وهذا ملاحَظ ومصادَف في كلّ شريحة وتجمّع وإدارة ومشروع؛ لأنّ للبشر مستويات متعدّدة في أثناء ممارسة الحياة، حسب القدرات والإمكانيّات الخَلْقيّة، والمكتسبة، والتحصيل المادّيّ والمعنويّ، والظروف والبيئة والسكن، والمكان والزمان؛ ولهم غرائز وخصال متباينة الشدّة والتأثير؛ كما للناس حاجات ومتطلّبات وضرورات وأولويّات؛ ولهم مصالح شخصيّة وعامّة، تختلف حدّتها ودرجة الانحياز إليها، والانصياع لها؛ ويؤمنون، ويعتقدون بما هو موافق أو مفترِق، قديم أو جديد أو مستجدّ، أرضيّ أو سماويّ؛ وللكائنات (العاقلة) مواهب وهوايات ورغبات، تتقارب، وتتقاطع، وتتباعد…
وتختلف نسبة هذا- وسواه- حسب المجتمع والبيئة والتاريخ، وقد يتغيّر، مع مرور الوقت، وتحوّل الظروف، ومراحل العمر؛ ولهذا ربّما تتبدّل الغايات والأهداف والمسارات والمواقف والعلاقات والمشاعر؛ ما ظهر منها، وما خفي، ما أُعلن، أو ما بقي مكتوماً؛ وعليه، وعلى أسباب وعلل لا تحدّ ولا تحصى، يتبادل الوفاق والخلاف المواقع والكائنات، ويبترد ما كان حارّاً، ويسخن ما كان بارداً، ويصبح عدوّ الأمس صديق اليوم، ويغدو الحبيب منبوذاً، والمطلوب مرفوضاً، ويتمايز السعي والمسعى والمرافقون والمنكفئون…
وكلّ ذلك من سمات أبناء الحياة، وهو مُتَفَهَّم، ومحتمل، ومألوف؛ على الرغم من شراسته وخيباته ومراراته وغصّاته أحياناً.
لكنّك يمكن أن تشعر، أنّ عاطفتك تجاه شخص آخر محسوسة ومقروءة وربّما فيّاضة من دون سبب ظاهر، أو يمكن أن ينقلب أحد على آخر؛ لعلّة غير معلومة أو مفهومة؛ فهل هذا معقول، وهل له ما يسوّغه؟!
نعم، يحدث مثل هذا وذاك، وهو محيّر ومعذِّب، ويدعو إلى التساؤل والتفكّر والتحليل.
وإذا ما كان يقال؛ استسهالاً للتعليل ربّما، بأنّ بعضه- أو جلّه- ناجم عن الكيمياء الشخصيّة الغريزيّة، التي تتوافق، أو تتنافر، فهو؛ وإن كان وارداً، غير مفهوم وغير مسوّغ، وليس في مثل هذا التفسير ما يشبِع، أو حلّ للّغز، أو هداية إلى منفذ المتاهة، أو بوّابة النفق. وإذا كان للمنافسة على المراكز والمناصب والمغانم ما يفسّرها- ولا يسوّغها-؛ سواء أكانت صريحة أو مواربة، قيّمة أو بخسة، مادّيّة أو معنويّة، وإذا كان للمواجهات أو السباقات للحصول على فوز عظيم، فرسانها المبادرون أو المراهَن عليهم ممّن يريدها، ويُزكيها ويرعاها، من دون أن يكون- بالضرورة- حاضراً أو معروفاً بشخصه أو سلطته، ولا مفصحاً عن ذلك، أو إنّه لا يترك من أثر؛ لدربة وخبرة وامتهان وغاية، فإنّ كثيرين يقعون في المصيدة الذاتيّة أو الغيريّة، التكوينيّة أو المحتسبة، العفويّة أو المُعَدّة، الموروثة أو العصريّة، المزمنة أو الراهنة؛ بقصد وطمع وانقياد، أو بحيلة وإغراء وترغيب.. ومع هذا، ومع كلّ ما ذكر، ومع محدوديّته أو كثافته، فردانيّته أو شموليّته، نجاحه أو إخفاقه، فإنّ هناك ما يبقى غامضاً أو عصيّاً على التفسير والتسويغ؛ ولا سيّما أنّك مسامح، ومشجّع، وأريحيّ، ومبارِك، ومواس، ومترفّع، وزاهد؛ أو على الأقلّ ما تشهد عليه في نفسك، وما تقتنع به، وما يتحدّث عنك به الناس.
ومن السذاجة الاكتفاء بالقول بعداوة الكار فقط، أو بتمسّك القديم بما حصّله، أو خَبِره، أو امتلكه، أو اعتاد عليه، أمام الجديد المتطلّب، حتّى لو كان أكثر علماً ومعرفة- وقد يكون غير ذلك!- فلا شكّ في أنّ للنجاح كارهين، وللفشل شامتين، وللّغو مشجّعين، وللسفاهة مروّجين، وللفساد مسهّلين؛ كما أنّ هناك من يرتكب المعاصي بحقّ الإنسان والإنسانيّة، وهو لا يعلم، أو لا يقصد، أو يظنّ أنّه ينفّذ الواجب والعقيدة والحقّ! وهناك- لا شكّ- من يقدم على الكبائر والصغائر، في وضح النهار، غروراً أو سطوة أو هيمنة، أو تباهياً…
ويبقى من يقاطع بلا سبب، ويعادي من دون موقف مسبق، ويقاضي من دون قضيّة، ويُستهدف من هو سبّاق في طموحه، ومعطاء في عمله، ورضيّ في معاشرته، ولا يرضى أن يضيع وقته وجهده وطاقته في مواجهات عبثيّة، ومماحكات لا طائل منها، وثرثرات لا معنى لها، وهناك من يفرض عليك الحالة، والموقف، ويدّعي ما ليس فيك، وما ليس لك، ولا مصلحة لك فيه، ولا سوابق لك- ولا استعداد أو بوادر أو علامات للواحق- بل إنّ لك اهتمامات مختلفة وانشغالات مغايرة، وأهدافاً أرقى، وغايات أسمى.
وإذا كان بعض هذا أو جلّه، يحدث في مختلف الشرائح، والمجالات، وله تداعيات وعواقب ومتاعب وخسائر، فإنّ أمر وجوده، وربّما استشرائه لدى شريحة المثقّفين، يدفع إلى ما هو أشدّ وأقسى من التبعات والانعكاسات، التي لا يتوقّف ميدانها عند الفاعلين، والمظلومين، والمعنيّين بالأمر مباشرة؛ بل إنّه ينسحب سمعة شائنة على مختلف العاملين في هذا الحقل المميّز، وقد لا يسلم منه العمل الثقافيّ برمّته؛ فلماذا يصرّ بعض على أنّك منافسه، أو ملاحقه، أو حاسده، أو مستهدفه في نصّك، أو حداثتك، أو مادّتك، أو غزارة إنتاجك، ومشاركاتك، أو جائزتك، أو تقدير الآخرين لك، أو تقريظ ما تنشر، أو تقرأ، أو تقول؟! في الوقت الذي لا تتوانى عن التصريح دائماً، والاعتراف بطلب أو من دونه، ومن دون أن يكون درءاً لاتّهام، أو استباقاً لمواجهة محتملة، بأنك لا تنافس أحداً؛ بل تتنافس مع ذاتك، وتحفّز ملكاتك، وتطوّر قدراتك، وتمتثل لما تشعر به، وتحسّه، وترغب فيه، وتتمنّاه، وتفكّر فيه، وتسعى إلى إنجازه؛ ولماذا يؤخذ أيّ نقد لنصّ أو عبارة، أو شكل، أو أسلوب، أو كلمة مترجمة، أو رأي، على أنّه إساءة شخصيّة، وإهانة مقصودة؛ وهي جريرة كبرى وجريمة موصوفة، يمكن أن يكون وراءها مؤامرة أو محاولة إلغاء، وجهات وأجهزة ووسائل؛ لذا فهي تقتضي الردّ السريع بأقسى منها وأشنع؟! (هدّدني أحد الأصدقاء، ذات ملاحظات شفويّة بينيّة على أحد إصداراته الحديثة؛ قائلاً: إذا ما نشرتَ هذا سأعاملك بالمثل، وسأنتقد بعض أعمالك.)!
صحيح أنّ المثقّفين شريحة، تنتمي إلى فصيلة البشر، وهم أبناء بيئاتهم وظروفهم، وليسوا ملائكة، ولبعضهم شطحات وتهويمات، وما قد يبدو خروجاً عن المألوف؛ وليس هذا- بالضرورة- منبوذاً؛ ولكنْ ربّما كان بعض المثقّفين أبرع في إشهار أسلحة البلاغة وشحذ أساليب التعبير، وتدبيج الهجاء والقدح والذمّ، وتعميم الاتّهامات والإدانات، وتشريح الضحيّة- حتّى إن كانت متوهَّمة- والتمثيل بأفكارها ومواقفها ومقولاتها! وصحيح أنّ الوسط الثقافيّ لا ينعم بالبراءة والعفويّة والصدقيّة، والعمل الخالص لوجه الثقافة والوعي والمسؤوليّة الأدبيّة؛ سواء في النشر الموجّه، والدراسات المرصودة، والنشاطات المحسوبة، والمبالغات في التعبير عن العواطف، والترويج المدفوع سلفاً أو لا حقاً؛ بأساليب وأشكال متنوّعة؛ أو في التعالي، وعدم النشر، والإهمال، والتجاهل، والتعمية، والتسفيه، والتشويه؛ لكنّ الحال الأشدّ ظلامة، تهيمن، إذا ما جاء ذلك ممّن قد لا تعرفه، ولا علاقة تربطكما، ولا مواقف مواجهة سابقة، ولا كتابة له أو تعنيه، تشي بما هو غير مستحبّ، وقد يأتي من كاتب حديث إلى كاتب تقليديّ، أو بالعكس، ومن كاتب عتيق إلى آخر مستجدّ، أو العكس، ومن صاحب مخطوط مغفل من الاسم، إلى قارئ أعطى رأياً سلبيّاً في نشره! ومن مشارك في مسابقة لم ينل إحدى جوائزها، إلى محكّم فيها، ومن مسؤول ثقافيّ إلى راغب في النشر لديه في صفحته أو مجلّته، أو داره، ومن راغب في النشر تجاه رافض لأسباب وجدها كافية ومسوّغة، ومن صاحب مادّة إلى متلقّ ما أعطى رأياً سلبيّاً، أو أبدى ملاحظة تجاه ما سمع، أو قرأ، أو شاهد… وقد وصل الأمر، في بعض الأحيان، إلى مواجهات أشرس وأقرب وأقسى، انبرى لها مريدون، وشارك فيها قادرون، وأصابت شظاياها من لا ذنب له، سوى أنّه مهجوس بالثقافة، شغوف بها!
ألا توجد هذه الحالات وسواها في الوسط الثقافيّ لدينا؟! ألا يبدو الأمر، في عمقه ودلالاته، خصومة بلا سبب؟!
***
غسان كامل ونوس