ليس آخراً
بلا رصيد!
غسان كامل ونوس
أفهم وأتفهّم أن يكون لأحد منا موقف ما من شخص آخر أو مجموعة أشخاص، نتيجة تاريخ مشترك، أو علاقة مباشرة، أو مسموعات أو مقروءات.. بصرف النظر عن رأيي وقناعتي، وعن صحتها أو عدمها. وقد يزيد هذا من مشاعر الألفة أو النفور، أو يتجاوزهما إلى مشاعر أكثر حدة وتأثّراً وتأثيراً.. لكن هذا يُفترض ألا يؤثر على الموقف من قضية مصيرية، أو موضوع سيادي، أو هدف أو مشروع وطني إنساني؛ مع أن هذا للأسف حدث ويحدث بهذه النسبة أو تلك، وفي هذا الزمن بالذات، وأزمنة خلت!
وقد يصل أمر الرغبة بتعزيز الموقف، أو الأمنية، أو الحاجة، إلى أصداء مختلفة لحدث أو واقعة، مع محاولات قراءة مغايرة، مبيِّضة أو مسوِّدة، مسوِّغة أو متّهِمة..
يمكن معها أن تُنكَر وقائع ، وتحوَّر ألوان، وتضاف عناصر، وتغيّب أخرى؛ وهذا غير مقبول منطقياً وأخلاقياً؛ ولا سيما إذا ما كانت البيئة تشي، والأحداث تؤكد، والشهود كثر، والنتائج بيّنة؛ إلا لمن لا يريد أن يرى أو يسمع أو يعي.. ما لا يناسبه، أو ما هو كائن؛ بل ما يريد أن يكون! وبالتالي فمن الصعب عليه أن يُقنع، حتى لو أفاض وشاط واستشاط؛ تلك حال أشخاص وجهات ومؤسسات ودول.. في هذا الزمن الذي استشرى فيه الفجور المعلن، وتمادى فيه التزوير المفضوح!
ولا يقف الأمر عند ردود الأفعال، أو تصديرها وتعميمها عن طريق وسائل إعلام متعدِّدة ومتطوّرة ومنذورة لذلك؛ بل قد تقوم هذه الجهة أو تلك بالفعل، وتتنكّر لذلك، مع إبقاء الترويج والتعمية؛ وقد تدفع آخرين، وتدفع لهم للقيام بما تريد، وتبقى بعيدة متوارية، إلى أن تُضطرّ إلى التصريح بما قامت به؛ بل قد تتفاخر به، حتى لو كان عدواناً مكشوفاً سافراً على سيادة وكرامة..
لكن التاريخ لا ينطلق الآن، ولم يبدأ منذ عامين، أو بدايات القرن المنصرم.. ورغم ما في تدوينه من قصور وشطط، وأهواء، وانحرافات.. فإن هناك مبادئ عامة، وحقوقاً قارّة، ومحاور مستساغة؛ وهناك سلوكات متفق على تجاوزها لما هو مقبول، وعجز مسوّغاتها على الإقناع، على الرغم من أن أصحابها لا يعيرون كبير اهتمام لمن يقوِّم، سواهم، ولا لمن يوصِّف مِن دونهم!
والأغرب أن يلجأ بعض من الناس؛ أشخاص، أو مجموعات، أو تيارات، بصرف النظر -مرة أخرى- عن الصدق والموضوعية، والنيّات الصافية أو القاتمة – إلى من يتحمّل وزر النكبات والكوارث والظلامات عبر سنين وسنين، للحماية أو الرعاية أو الإنقاذ.. برغم الشواهد العديدة على أن هذا القادر المهيمن الفتّاك النّهاب الغادر.. لن يتورّع في أيّ لحظة عن الطعن في الظهر والصدر، والرفس والرمي والتجاوز والانقلاب، حين يجد مصلحة أكبر في ذلك، أو حين يجد أدوات أمضى أو أجدى..!
فيغدو من وضع كلَّ رصيده لديه بلا رصيد، ويصبح من انصاع إلى شروطه، أو “ألقي في الماء مكتوفاً”، بلا مجداف، ومن رفع على سواريه راياته وغاياته وجهاته، بلا سارية ولا شراع، ولا ذراع ولا أصابع لياكلها، ولم يعد لديه قلب لينفطر؛ فقد جمّده، ولا سوائل لترطّب حلوقه وأوقاته، بعد ما أراق ماء وجهه، وهدر دماءه وعرقه في غير مساراتها ومساماتها الطبيعية.
نعم، لا يمكن أن يعيش المرء منبتّاً عن الآخرين؛ بل لا بدّ من أن يعتمد على من قد يعينه على تحقيق أحلامه، وتنفيذ مآربه؛ ولكن الخيِّر يعينك على الخير، ليزداد الوئام والصلاح والعدل، والشرِّير يفاقم نزعة الطمع والأذى والعدوان لديك، ويدعمك ليربح منك ويعبر عليك، ويضحّي بك في النهاية أو قبلها بكثير، على بوابات أهدافه ومنافذ استغلاله وأذرع استثماراته..
وتخطر في بالي حكاية، أرى أنها تصحّ في هذا السياق، مع الاعتذار من فجاجتها، رغم أن الواقع ليس لطيفاً، والوقائع أكثر فظاظة:
يحكى أن شخصاً كان يجالس جماعة، يردّد أفرادها شتيمة لرمزٍ للشرّ معروف تاريخياً، في كلّ ذِكرٍ لعمل مشين احتيالاً وغدراً وغروراً.. حتى إنهم يلعنونه تفادياً لخطأ ما في قول أو فعل.. وهو ما اعتادوا عليه، كما غالبية الناس في أزمنة متعاقبة.. لكن الحميّة دبّت في أوصال هذا الرجل، فانبرى للدفاع عنه بحماسة وغضب، ثم غادر حانقاً مكفهراً..
وفي أثناء نومه جاءته هيئة ما لرمز الشرّ ذاك، فقدّم شكره وامتنانه للرجل على ما قام به من دفاع عنه في غيابه، وعبّر عن رغبته بتقديم أيّ خدمة إليه، ليردّ بعض الجميل، حتّى لو كانت بمساعدته في قضاء حاجة ألحّت! وحين أفاق الرجل الغيور من نومه مبللاً مُنتِناً، ثار، وجاهر بالشتم واللعن بما يزيد أضعافاً عمّا كان يقوله الناس.
وإذا كان هذا ما يمكن أن يحدث، مع فرضية أن المُدافع الحريص حسن النيّة أو غافل أو مغفّل؛ فكيف ستكون حاله إذا ما كان حاقداً عنيداً لئيماً، متورّطاً ومذلولاً منقاداً؛ فهل يجد ما يدافع به، أو من يدافع عنه؟!
أليست هذه حال كثيرين اليوم؟!
***
الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ليس آخراً- جريدة الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: 2013-02-09
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy