الفئة: قصة
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي ع 1500
تاريخ النشر: 2016-07-31
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy/PublicFiles/pdf/alsboa/1500.pdf

أعترف… لم أكن أجيد اللعب. وكان كلّ فريق يتجنّبني؛ حتّى أخي الأكبر، يحاول إشغالي، أو يطلب من أمّي أن تستبقيني في البيت بأيّ حجّة؛ كي يتهرّب من مرافقتي إلى ساحة القرية، وما يترتّب على ذلك من التزام بي، ونفور الآخرين منه، ومنّي!
كنت صيداً سهلاً في لعبة “الاستخباية”. ولدى أوّل محاولة بحثٍ، يجدونني، وأُقتل، وأصبح خارج اللعبة، ويخسر فريقي فرداً محسوباً عليهم!
تذكّرت ذلك، حين كُلّفتُ بالمهمّة، وتراوحت مشاعري بين قلق ورغبة!
لم أكن لأبتعد كثيراً، ولا أستطيع إخفاء أطرافي المتطاولة، ولا الانتظار طويلاً في مخبئي؛ فلا بدّ أن أمدّ رأسي، لأستطلع ما يجري، أو أتحرّك محدثاً جلبة، تدلّ على مكاني، أو أضحك بلا سبب. أو قد يداهمني السعال من دون مرض؛ أمّا العطسة فيمكن أن تكشف المرء من على بعد أميال؛ كما يقول رفاقي ضاحكين أو شامتين! فيما أخي، على عكس إحساسي، يتأذّى أو يُهان!
*

أين أنت اليوم يا أخي؟!
أحسّ بغصّة تحاصر أنفاسي.
أعترف…
ربّما دخلتُ هذا السلك، لأردّ لك بعض سطوتك، لأقف في وجهك، لأثبت لك أنّ لي كياناً مستقلاًّ، قواماً مختلفاً، وأؤكّد لنفسي-أيضاً- أنّ لي حضوراً ووجوداً، برغم أنّي لم أَسِرْ حثيثاً في طريق العلم، وأكملتَ أنت.
كنتَ تأخذ دور الأب الذي رحل باكراً، وهو مهمّ حتّى في غيابه؛ فللشهيد اسم ومعنى، وهذا ما كان يدفعني إلى الزهوّ، و.. الاستخفاف بالحصص الدرسيّة، وأهتمّ أكثر بدرس الفتوّة. كان دورك مفهوماً؛ صار كذلك، بعد أن تغيّرت الأحوال كثيراً. لكنّ هناك ما لم أتفهّمه؛ فما علاقة دور الراعي هذا بمحاولتك اصطيادها أيضاً؟! هي قالت ذلك، بعد حين من الدهر، لم يعد للكلام فيه قيمة، سوى في التخفيف من المشاعر الغاصّة، أو تحويلها إلى سُموتٍ أخرى. هل كان ذلك صحيحاً؟! الأمر الوحيد الذي لم أتحقّق منه، لم أطقْ ذلك، لأنّي لا أريد أن أدخل في تفاصيله، لا أريد- ربّما- أن أتأكّد من أنّ ذلك صحيح!
لا يهمّ؛ لم يعد ذلك مهمّاً.. ليتك بقيت معي، أمامي، فوقي؛ تؤنّبني، تمارس فتوّتك عليّ؛ لا بأس! لكن أن تسبقني كثيراً، ليس بفضل العلم، الذي تابعت طريقه، وتأخّرتُ عنك بسببه؛ بل لأنّك أوغلت في البعد، وتماهيت في دور الأب كثيراً، لتبقى متفوّقاً إلى الأبد!
*
الفرق بين لعبتنا الطفوليّة تلك، ولعبة الكبار هذه، كبير؛ فأنا من ينتظرهم، وهم لا يبحثون عنّي، هنا على الأقل. لكنّهم لن يرحموني، أكثر مما كنتم تفعلون، إذا ما اكتشفوا مكاني، في أيّ مكان، وليس في هذه الضفّة المظلمة للنهر الجافّ.
سيأتون من هذا المعبر السرّي، الذي تعبنا في الاهتداء إليه، وانتظارنا القارس هذا.
لا أحبّ الاختباء، وإخفاء الوجه والمشاعر والمواقف. عشت كذلك، ولا أستطيع تغيير طبعي، الصمت عدويّ، ولا أستطيع الكتمان، سرعان ما يخرج ما بقلبي على لساني، وقد جرّ هذا عليّ الكثير من المتاعب، في مساراتي التي لم تتشعّب كثيراً. لم أتوانَ عن الانخراط في أيّ مهمّة، مهما كانت خطرة، ولا أخشى المداهمات، ولا المواجهات المباشرة؛ لكنّ أمر الكمين لم أستوعبه، لا أستسيغه، لا أتحمّله. ولكن من غير المقبول أن أعترض على مهمّة لاصطياد طريدة على هذه الدرجة من الأهمّيّة.
لعلّها توازي ما أحمله من شعور للانتقام منك، إلى حماسة للانتقام لك!
*
يمكنك الآن أن ترتاح من همّ الخدمة، وقلق الحرب التي تختلف عن أيّ حرب؟!
فكّرتُ، لا أنكر، بعد أن حصل ما حصل، وتوسّلتْ زوجتي، وألحّت أمّك. لكن هذا غير ممكن. لا يليق بي، لا أتحمّل وزره. سأكون الأضعف طوال حياتي، فيما الحديث يفيض عن شهيدين، ووريث لمجدهما بلا جهد! لا يمكن أن أنافس النسوة في موقف كهذا، سيتلبّسني ما حييت.
سأثبت أنّني ابن أبي أيضاً، ولا أقلّ عنك في شيء!
*
هل كان عليك تعلّم التدخين؟! كم نهاك أخوك عنه! أم أنّ هذا ما دعاك أكثر إلى التحدّي؛ فبالغتَ في ذلك؟! التدخين ممنوع! كنت تضحك، حين تراها مكتوبة في بعض المكاتب، أو الحافلات أو القاعات… يمكن لأيّ كان أن يخرج، يدخّن ويعود. تضحك أكثر من وجود غرف للمدخّنين، كان فيها من الإهانة والذلّ ما يدفع إلى تركه؛ هل هذا مقصود؟! كنتَ تفكّر في ذلك، بعد كلّ خروج من المنفردة، كما كانت تسمّى، مع أنّها تعجّ بأمثالك المبتلين بالمعاصي، وعليهم أن يستتروا!
وها أنت تتستّر في مخبئك، لكنّك لا تستطيع أن تدخّن، لا يمكن أن تدخّن. يقول زميلك: أخفي جمرتها بأصابعي أو بقبضتي، بقبّعتي، بجعبتي! زجره القائد بعصبيّة: هل نحن ذاهبون إلى هناك لنلعب؟! أم أنّها ثمرة الحياة؟! هل كان هذا سبب تفتيشكم بدقّة، ليمنعوا أيّ احتمال؟!
لا دخان ولا طعام، وماء قليل.. “كيلا تنشغلوا عن المراقبة والهدف!” وكيلا تضطرون للذهاب إلى الخلاء! ضحك زميلك الآخر: هل هناك من خلاء أكثر من هذا؟! ربّما كان تخوّفاً من انشغالكم بأشياء أخرى!
وضحكتم بأنين مكتوم: من يستطيع ذلك في هذا المكان وهذا الموقف؟!
*
كنت تتباهى بها بين شفتيك، في رأسك المائل إلى جنب، وتنفث دخانها المجمّع في فمك، باتّجاه مرورها، في منعطف الطريق، حين حضرت، برغم المناخ الشتويّ، لملء الجرّة من النبع الجاري. جفلتْ حين رأتك، وقد نهضتَ نحوها:
– ماذا تفعل هنا؟!
– أطبّق عمليّاً درس “الفتوّة”.
ضحكتْ بجرأتها التي تعرفها، وهي سبب مهمّ في إعجابك بها، ونباهتها أيضاً:
– ولكن من أهمّ شروط الكمين: أن تَرى ولا تُرى!
اقتربتَ منها ضاحكاً:
– هذا في الكمين الذي يستهدف القتل أو الخطف!
ابتعدتْ بنفسها قليلاً:
– وما الغاية من كمينك هذا.. يا هذا!
– الخطف؟! ليت لي ذلك!
– آه.. تريد قتلي إذن!
-“أجمِلي.. فأنت من قتلتِني”، وانتهى الأمر!
*
لم ينته الأمر على الرغم من توالي السنين. الكمين استمرّ حولاً. تنامى مع الفصول. أزهر ولم يثمر، مع أنّه صار أكثر علنيّة، حتّى كان الخريف!
لا تلومها الآن، وأنت تحاول إسكات نبضاتك التي تعالى ضجيجها، مثل ما كانت الحال عليه، وأنت في انتظارها.
كان مسارك إلى الكفاية طويلاً، وكانت يده أسرع، وحافِظتُه أوسع. هل تلوم أهلها الذين قبلوا أن يستثمروها، ويتزيّنوا بالذهب الأسود!
لم تلمْها في ما مضى. لكنّك لا تستطيع اليوم، إلّا أن تسأل عن الصفقة؛ فماذا تفعل الآن؟! وما هو موقفها ممّا يجري؟! وما موقف زوجها؟!
لقد باعتْك هي أيضاً. ادّعت أنّها لا تستطيع ردّ النصيب، وأخوتها يريدون أن يتعلّموا، وأهلها يريدون أن يروا يوماً أبيض!
فهل هذه أيّام بيضاء ترضاها لأهلها؟!
لا تستطيع الإجابة. لكنّك تتساءل:
لماذا لا يكون لها موقف مختلف، لماذا لا تترك كلّ عزّ هناك، وتعود؟!
هل تتمنّى ذلك حقّاً؟! أمن أجل أن تعود إليها الخصال، التي كنت تسبغها عليها، أو بعضها، كي تعزّي نفسك التي صُفعت، بأنّ هناك ما يسوّغ؟!
لماذا تتذكّرها؟! لا تستحقّ منك ذلك. هناك من تنتظرك في البيت، تحتضن الأولاد، ربّتهم في غيابك الذي يتكرّر، لم تكن تحتاج إلى كمائن، ولا إلى خطط للخطف أو سواه، ولا إلى كثير تفكير. هي التي رضيت بك، حين تقدّمتِ منها، إليها، على الرغم من أنّها تعلم بمغامراتك، وكمائنك! حنينها يخجلك، وعاطفتها تقوّيك، تستحقّ أن تبقى من أجلها وأجلهم؛ فلا يجوز أن تنشغل، أو تفشل في مهمّتك؛ فأنت تعلم ما يمكن أن ينتظرك، لو قبض عليك، يمكنك أن تتخيّل بعض أساليب التعذيب، ولا تخمّن طريقة القتل!!
أسكِتْ أنفاسك قبل أن تفضحك، وتودي بك.. هل جاءت ذكراها لتكمل عليك، وتلقي بك في أيدي من أرسلهم زوجها- ربّما-، أو أهله، أو بلده.. كي تنتقم أكثر!
ليست أنفاسَك، وليس جَيَشانَ مشاعرك، وضجيج قلبك؛ بل هو صدى لحركة تقترب. استعدْ تفاصيل الخطّة، وتهيّأ للانتقام!
***

اترك رداً