النّص المفتوح..
في ديوان حديث الروح للشاعر غسان ونوس
مصداقية الرؤيا..
إذا كان النحّو العربي هو عقل اللغة كما قيل فيه: فإن الشعر هو الحاكم بالأسرار، والناطق باسمها.. ومن أسس الوعي الجديد في الدخول إلى عالمها التساؤلي كونها هي القادرة على امتلاك البعد الجمالي، بقيمة معرفية، تهدف إلى الإطلاع على ما تفرزه من معانٍ عبر الصور البلاغية في حركية التشكيل بقالبه الاستعاري الذي صحبته العروق الدرامية، والتي تنقل معها الفكرة أفكاراً، وقد استقرت لها المواطنة باعتبارها امتداداً فنيّاً، وإضافةً إبداعيةً، تركت تحت ظلّها سحر التعاويذ الطقسية بانتظار مفاهيم نقدية تكشف عن دور ذلك السّحر الذي أنزله الخيال، من آفاق بعيدة، لتعكس ثقافة الشاعر في نصه، بحيث يجيء ذلك النّص ماسكاً بالبياض، ومشبعاً بالإيحاءات التي تشير دلالاتها إلى درجة القدرة التي كانت وراء مكونات الصوّر، والإحساس معها بوطأة الزمن الفيزيائي داخل سلطة الحياة، دون خوف على الحياة نفسها وحتى خارج لعبتها التي يتحول معها الشعر إلى ما يشبه الكاهن المجلي في مفرداتها، بما في ذلك الأرستقراطية منها، وإذا ما اقتضت الحاجة ذلك في فرض مواطنة الحداثة، كمدخل فنيّي على نظام النّص، وحصته في التواصل مع المتلّقين فإنّ على الشاعر ونصه معاً أن يكونا قادرين على الأجوبة..
بهذا المعنى يمكن القول: إن الحالة الشعرية التي عاشها الشاعر غسان ونوس في نصوصه وشدته للتأمل فيما يجري حوله من ظروفٍ طارئة، باعتباره لم يألف الحياد، تجاه القضايا الوطنية بلباسها الإنساني العام.. فارتدى لأجل هذا الموقف ثوب شاعر ملتزم، وبعاطفة متوازنة، ربط معها الأسباب بالنتائج، ولكن بوعي جاد وإدراكٍ عميق لطبيعة الحدث المركب الذي تمر به البلاد.. فارتفعت درجة حرارة اللغة عنده، في امتدادها السرّي الذي دلت عليه الإشارات الطالعة من الحقل الدلالي على طريقة العلامات المسرحية، أو فوق خشبة المسرح، لأن موضوع مجموعته كان إنجازاً شعرياً على صعيد الحرفة والكتابة في ظرف استثنائي رفض من خلاله الهوية المزدوجة، لكلّ المثقفين، فاتجهت كائناته الشعرية نحو الجهات كلّها ليكون الشهيد كتاب هواجسه، وبعيداً عن ردود الأفعال التي لا تقدم ولا تؤخر حين تهدّد الأخطار الكونية وطناً مقاوماً لتحمي قراره المستقيل في ظل عالمٍ مأزوم يقول في الصفحة (29) من ديوان حديث الروح:
كأنيّ شهيدٌ/ شغوفاً/ أطوف على خلجات النزَّيف/ أقارب نبض الثكالى/ حيارى النداءات في حشرجات السنيّن/ وأدنوُ من الجرح/ حاصره الموت والأقربون/ كأنّ الذي أوسع الوخز في الروح/ أوكت يداه/ وما نال في غيّه/ لم يُثبْ/ كأن الذي أفسد الوقت والعهد والتوق/ بالحجج المنتنات/ تمرّغ في إثمه/ وانصلبْ.
لقد كسر غسان في هذا المقطع اللغة العادية، ونقلها إلى تفاصيل قصيدته، باعتبارها مسألة حياةٍ أو وجود.. فكانت الشهادة مدخله إلى لغةٍ شعرية عميقة، جندّ لأجلها كلّ المعاني التي غارت عميقاً في التشبيهات، لتؤسس لنصّه أفقاً مفتوحاً على العتبات في السماء حيث وصلها الشهيد بخطى متزنة، وشجاعة لا يقوى عليها الموت نفسه. واختار لذلك الحرف المشبه بالفعل (كأنّ/ جاعلاً الضمير المتكلّم اسماً له، ليكون الخبر هو كلمة شهيدُ/ ومن ثم نصبَ اسم المفعول شغوفاً على الحال من الضمير وهو (ياء المتكلم) أيضاً ليبرهن على ارتباطه الخلقي بقيمة الشهادة، ومع هذا الارتباط بدت حالة النزف لأجل الشهيد همّاً، بل غمّاً بلا زمه لأنه لم يكن هو الشهيد في المحصلة، بل أخذ الشهيد مكانه بحكم الأوامر القدرية.. وكان تكراره للأفعال المضارعة في قوله: (أطوفُ، أدنو، أقاربُ دلالة على استمرار عملية الشهادة، وموقفه من أصحابها، رغم سخونة الأمكنة، وحجم الوقائع وما تحمله من أوجاع.. وفي كشوفاته اللغوّية من خلال علاقة الألفاظ المستخدمة ما يوحي بأنه لا يركن إلى المصادفات.. فاتحدت تراكيبه عبر انسجام المضمون الذي حملته تلك التراكيب في جملها الخبرية داخل سياج فنيّ متماسك، فخدمت سلطة النص بإيقاع موسيقي، بما يدّل على أن أسرّة الرّيح لا يقوى على النوم فيها سوى الرجال الذين تكاملوا في مواجهة الموت الذي اقتضته، دوافع الاختصار لوجودهم أحياءً في وطن الآباء والأجداد وهذه هي مهمة الشعر عبر النصوص التي صبّها الشاعر في إنائه الخاص، وقد رست مذاقات اللغة فيه، وانتشر عبق المعاني حول ذلك الإناء، لتجتهد الذاكرة في قراءتها ما دام الشعر حيّاً في الوجدان..
في إهدائه إلى أم المقاوم ص5: يقول الشاعر: ألقتْ إليك زمانها/ أيامّها غُصات جلجلة / التصبّر والتأسي/ ويداك عاليتان/ لوّح للنشيج المرّ/ في ثغر التلهف/ والصدى/ وتملّ من ألق التشهي.. /هي كل دربٍ/ موجه الخطوات/ في المسرى إليك/ هي كلّ عينٍ/ رفة الهدب/ المساهر مُقلتيك../
يتميز هذا المقطع بإيقاعه الغنائي المثير لأن ألفاظه تشكل صيرورة زمان الأم التي اخترقت أشعة العمر، ومكابدة العيش وهي ترقب ابنها البار في امتحانه الذي تفوق فيه وغازل مشاعر الفقراء وكان أميناً على وصاياها، وها هي الآن تراه في كل مكان بعد أن احتضنه فجر الوطن لتكون البندقية سلاحه الذي يحمي فيه لهفتها، وعمامة جده، وعكاز أبيه في زمن يقلق فيه المقاومون على الحياة.. ولقد خلع الشاعر على ظلها هذه الصور الشعرية، معتمداً على أرجحتها بين التثنية، والتثليث لتطل منهما يد ابنها عالية في التحدي لكل نومٍ قد يفسد الانتباه، ويرمي بالجسد خارج الصدى الذي هو ترداد الفعل المقاوم بكل رغبة قد تكتب التاريخ لصاحبه حتى بعد الغيابْ.
وفي نصه الذي حمل عنوان /طواف الهديل/ ص73 من الديوان نفسه يقول الشاعر: العُرس متقدّ/ والزّفة الحمراءُ/ تغرسُ دربَ بيدرها خطىً/ والدعوة الخضراء/ مشرعة/ وعروسُ موعدها / بلا مراسم/ أو نشيد.
كلمة العرس التي كانت مفتاح المقطع هي حفل زفاف الشهيد ليكون اسم الفاعل متقدٌّ هو خبر المبتدأ العرس – ولكن (الزّفة) ليست هي اللباس الأبيض الذي تلبسه العروس في ليلة زفافها، بل كانت دماء الشهيد التي اغتسلت بها صيحات الأمهات، حيث أن مراسم الدفن قد أعلنت، ولكن ربمّا يأتي الجسد بعد حين..
إنّها عتمة اللحظات الحزينة، التي لا تحتاج إلى تفسير، لكنْ ما جعلها تستمد ضياءها الأخير هو التشابه بين واقعين، الموت، والولادة.. فانتصرت من خلال ذلك التشابه السمّيائية التي حولت الفرح إلى حزن، والحزن إلى فرح وهذه هي معادلة النضوج في صوغ اللغة الشعرية، داخل حيوية، التقابل وبمعايير الذوق، التي كللّت مجازاتها جسد النّص وجعلت منه مثلاً سائراً بين عشاق البلاغة وتلاقح اللّغات في الجانب الشعري الملتزم بالقضايا الوجودية.. وفي الصفحة /74/ من المقطع السابق نفسه، طواف الهديل – يقول الشاعر أيضاً:
مشت الدريئةُ/ والظلال تناسلتْ/ ورصاصُهم يشكو/ مغالبة الجباه السمر/ واللحم الطّري مفارقاً/ منظارك المصلوب من عينٍ وغرّةٍ/ مشتْ الدريئة/ خطوها مجداف ريحٍ تهتدي/ من بعد أن تاهت طويلاً/ في زواريب الدُّعاة/.
باستخدام الفعل الماضي /مشت/ والفعل/ تناسلتْ/ والفعل المضارع/ يشكو/ ثمة منهج تحليلي يحمل في تفكيكه مفهوماً متكاملاً أخضعه الشاعر لقوانين بلاغية عمادها هذه الاستعارات في قوله السابق مدلّلاً بذلك على لغة الخطاب الشعري، التي كونّتْ تنظيمها بطريقة تراتبية دونما استطرادات قد تضعف الربط بين دلالاتها الفنية وما يمكن ملاحظته (من تحفظ، أنها مجتمعة قد أدّت غرضاً شعرياً هو الفكرة التي أناط بها التركيب إيقاعاً يضبط فيه دواخل الألفاظ لتأتي المعاني أكثر عمقاً ممّا يظنّ القارئ للنّص. لقد أوحت لفظة الدّريئة في سيرها المختلف أنها ظلّ للتناسل الذي استحضره الفعل المقاوم، في تحركه وانطلاقته ليقف المتأمل فيها معجباً بطلائها، واستقلالها، وتكون عملية التقويم هي الأساس في الحكم على جماليتها..
ومع تدفق الأنساق التي حملتها المخيّلة في عملية ابتكار الألفاظ والمعاني وصولاً لها وشمولية الرؤيا التي نجحت فيها شفافية الرّائي والمرئي نقف مع هذا المقطع الجديد في الصفحة /100/ من المجموعة يقول فيه /الشاعر: أيا قامةً من شراعٍ عنيدْ/ سلامٌ عليكَ/ تطير في جثتي نبأً عاجلاً/ فيشتعل النص/ ينهمر الوقت مستنغماً بالأماني العزيزات/ بالرعشة الغامرة/ أيا ديمةً من سخاءٍ عميم/ أغنتني في عرى دهرٍ/ وبي جوع دهرٍ/ لمعنىً يفيضْ/.
في هذا المقطع يعترف الشاعر بأن ما ستجود به تلك الغيمة الماطرة، بعطاء يعم الجهات كلّها وسوف يتحول عطاؤها إلى إرثٍ، لتتعلّم منه الأجيال معنى التضحيّة التي جسدت معالمها الشهادة في معادلة الحياة الآمنة والساكنة تحت سقف الأفكار النضرة ولكنها بمنزلة النجوم التي انتقل إلى جوارها المضحُّون، وهم الشهداء الذين كانوا تفريعات الألسنة في ذهول الشاعر نفسه وهو يقرأ في ظلهم الأعلى لغة المفاوضين حيناً، والمعارضين حيناً آخر، وفي الحالين سيظلون هم الرابحون، لأنهم قادرون على البقاء خلال خصوصية ما فعلوه ضد المستحيل وإذا كان – البوذيون – يعتقدون أن بوذا قد جاء مولوداً فوق زهرة ظامئةٍ وقد كانت طافية على وجه الماء أيضاً. إلا أنّ الشاعر هنا قد رافقه في الجانب الشعري اعتقاد من نوع آخر وعزّز تفاؤله بالحياة أكثر ليتخلص من جوعه المزمن على صعيد الخلق الجديد الذي نذر له النفس، وأمضى سحابة العمر في صيد هيبتي الزمان والمكان – ليصل في النهاية إلى امتلاك شبكة التقنيات، التي سبقه إليها الآخرون في عالمه المترامي، ولعله يستطيع فيما بعد أن يستولد أجيالاً قد تتفهم خصائص المقومات الجمالية، التي أسهم في رصف حجارتها، الشاعر عينه وزاد عليها الشهيد في تجديده الإبداعي عبر البندقية المقاومة، لتكون الرصاصة والقصيدة أختين في زمن الأعراب الأخير.
لقد عطل الملوك والسلاطين عقول أبناء الجيل الشاب، عبر المتع الرخيصة، واستيلاد الأفكار التي وقعت بهم إلى التيه والضياع لتبقى الشهادة المزوّرة في ترادفها الغيبي، حصتهم في الطّباع الخاسرة على كل الأصعدة.
إن الشغف بالوهج البلاغي جعل الشاعر يستجيب لسيرورة الإبداع التي لا تبعد عن نضارة الشباب وفتوته في المقاومة سوى المسافة بين اصبعين لأن مديح الملوك لا ينجي من خطر الابتذال والعبودية التي لا بقاء لها في ذاكرة التاريخ التاريخ حتى تصير خبراً في نهاية المطاف وستقبله المظان في التفريق بين المتناقضات..
وفي اعتماد القوانين الإبداعية التي ترتقي معها أبجدية التواصل، والتأصيل، لأجل انتاج ثقافة الحياة التي ترضي وجدان الشاعر ومعها نطلع على هذه الرؤيا في مغامرة دمه ص44 من الديوان حيث يقول: يقتاتُ من دمي المساء/ يصوغ من برق التوجع/ شعشعات نجومه/ والبوح مصفر/ وعويل أشرعة التلامح: /أين سيف لا يلين؟ كيف الزمان يعيد حدّ الحدّ؟! كيف تلامح الزرقاء ظلّ القادمين؟!
وحركة الروح هنا دائمة لتنجب الخضرة / وكأنها ريحان بهيُّ يشتاقه الناظرون إليه.. من هنا كانت الكلمة المفتاح في المقطع هي (الفعل يقتات) والفاعل هو دم الشاعر وقد انحاز فيها إلى الوجه الاستعاري الرقيق الذي حمله الفعل (يقتات) لكن لفظة الدم قد منحته بعداً أكثر انسجاماً مع الصوّرة الموحية في تناسقها فنيّاً وبشكل مدروس لتكتمل بعد ذلك الفكرة التي ولدت مع أسئلة الشاعر على من حوله.. كما في قوله: أين سيف لا يلين؟ كيف الزمان يعيد حدّ الحدّ؟! حتى لا يبقى بعد هذا للأسئلة من أجوبة سوى جوابٍ واحد هو لا شيء يبقى في عملية التحول غير شجاعة الموقف، والثقة المطلقة، بقدرة المبدع على التجاوز بهدف التغيير.
إن زمن الشاعر الفيزيائي قد تعطّل فيه حتى السيوف التي كانت أدوات الدفاع عن الحياة، رغم عجزها الآن عن الإسهام بأية فعالية قد ينتصر من خلالها أهل ذلك السيّف وعشاقه في ظل رواج القنبلة الذكية، والطائرة بدون طيار، وسباحة السفن النووية داخل البحار والمحيطات التي ستغرق نفسها إذا ما ضغط أحمق على ذر صغير لتكون الكارثة.
كأن الشاعر في ديوانه الصادر عن اتحاد الكتاب العرب عام (2012) قد خصه بانزياحات دلاليه في فضاء الغور نحو استيلاد مسلمات جديدة يبدو أن تحقيقها قد أوصله للشك حتى بالمسلمات نفسها وهو يردد مع من سبقه (الحياة تشبه كذبة مسافرة، والخطى فيها الآن تجبر المتحدث عنها ليردد مع الشّاعر أيضاً كلّ شيء مضحك حتى البكاء، بما في ذلك إدارة المجتمعات العربية حيث يكون الملوك هم أصحاب النزوات والغرائز المحرّضة على العودة إلى مصاهرة النوّق بدلاً من البحث عن وسيلة أخرى لا تجعل من مرافقي تلك النوق واحداً يمازح حزنه الجاني عليه حتى درجة الضحك على خطاه..
ختاماً وفي الحكم على النصوص التي قرأتها في ديوان (حديث الروح) أستطيع القول: إن الشاعر كان واسع الخيال، مأخوذاً بالتكثيف، ورشاقة التعبيّر في فضاء شعري مفتوح على مصداقية الرؤيا..
12/1/2016