الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: مجلة الموارد ع 3 آذار ونيسان
تاريخ النشر: 2014-04-30
رابط النص الأصلي: www.facebook.com/Almawared.sy

الثقافة اكتناز أو سعي إليه، واستلهام وانبثاث وانتثار، وهي نسغ وعصب وروح، وهي انفتاح ورحابة وحيويّة وفاعليّة وثقة واقتناع وإقناع وإشباع؛ بل توق إلى كلّ ذلك، واستعداد وقابليّة.. والغنى الثقافي يعوّض عن الكثير، أما الشحّ الثقافي فيترجَم ضجيجاً وعربدة ومناكفة وأذى نفسيّاً وبؤساً وخصومات بلا مسوّغات، وعدواناً ربما.. والثقافة ليست رصيد فئة محدّدة، أو ملكيّة شريحة منبتّة؛ بل قواسم وروابط ووشائج مشتركة بين الجميع، ويسهم فيها الجميع بنسب تختلف؛ ولا شكّ في أنّ مسؤولية إشعاع الثقافة تقع بدرجة أعلى على من يشغل مهمّة في شؤون المعرفة، وينشغل بها، ومن يشتغلون في مؤسساتها.
إذن الثقافة فرض عين على كلّ فرد، وخاصة من كان مثقفاً؛ إضافة إلى أنّه عمل جماعي لكتلة المثقّفين، وللمؤسّسات الثقافيّة. ولا تقاس الثقافة بالكمّ، معلومات ومعارف، ولا يتوقّف جريانها، ولا يصل حاملها إلى الإشباع؛ والثقافة وعي عام، لا يتوقّف على الشهادات والنخب مع أهميّتها؛ بل يمكن أن يتحلّى بها المواطن العادي..
والتثقيف لا يكون إلزامياً؛ بل بالترغيب والتحفيز، وإتاحة الفرصة وتأمين الإمكانيّة.

ومع كل منعطف أو محنة، ينهض تساؤل لاذع: أين الثقافة والمثقفون؟! والسؤال مشروع، رغم ما قد يبدو فيه من ازدراء أو اتّهام. وهو دليل على أنّ للثقافة -ما يزال- ذكراً أو مقاماً. وعلينا نحن المثقّفين أن نسارع إلى إثبات ذلك، بالإجابة على هذا السؤال وعياً وقولاً وسلوكاً، بدل أن نتشرذم خلف السياسيّين أو الإعلاميّين، أو نمالئ الذين يتّهمون، ونجاريهم في إلقاء التّهمة على الآخرين، الذين لا نحبّ ولا نحترم -وقد لا يستحقّون- ولا نتفّق معهم، ولا نعترف بحقّهم في القول والفعل، وفي الحياة ربما؛ وهذه مشكلة حقيقيّة؛ والمشكلة الأخرى حين لا نسائل أنفسنا: أين كنّا؟! وما هو دورنا في الماضي والحاضر؟! وماذا نمثّل؟!
وهل كان أداء المثقّفين خلال ما مضى وقبل الأزمة، وخلال ما أتيح لهم من مجالات، وهي ليست قليلة، مُرضِياً ومقنعاً؛ أعني الشريحة المثقّفة، وليس الأفراد؛ حتّى الزاوية الصحفيّة تُستأثَر، والصفحة الثقافيّة والتحرير الثقافيّ؛ الموقع والمنبر والعلاقة مع أصحاب القرار والجاه والنفوذ.. والباع الطّولى.
في أثناء الأزمة ذابت هذه الشريحة، صمتت غالبيّتها، انتقل بعضٌ منها إلى صفوف المعارضة المسلّحة المكفّرة، انتقاماً أو تشفيّاً أو تلمّظاً.. ومنهم من ظلّ من موقعه المسؤول على أدائه المُربَك، وسلوكه القاصر، ويدّعي مواجهة مسارب الفساد والإفساد، تلك التي نفذ منها المعتدون؛ وبعضٌ صمد، واستبسل مدافعاً عن الوطن وأرضه وكيانه وثقافته، رصيناً في تعامله مع القضايا المحمومة والأفكار المسمومة.. مؤمناً أنّ الحفاظ على الوطن هو الأهمّ والأسمى، وليس بهذا الشكل يتمّ التخلّص من السلبيّات.. وفي تقديري هؤلاء كانوا المعارضين الحقيقيّين لكلّ مظاهر الخلل قولاً وسلوكاً..
ولا بدّ من ذكر مسألة نغفلها في أحاديثنا واتّهاماتنا، وتتعلّق بالمزاج العام الذي ساد، وربّما أسهمنا فيه، وَلا سيّما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية؛ فرحنا، ومنّا من شمت؛ إذ تقلّص دور الدولة، وشاخ القطاع العام، ولم يجد من ينقذه أو يدافع عنه، ورحنا نهلّل للاستثمارات الخاصّة، والانفتاح المحموم على السوق الاستهلاكية، ومفهوماتها ومصطلحاتها، وقد شمل هذا القطاع الثقافيّ؛ حيث تمّ عن طريقه، وبماء وجوهنا، غسيل الأموال، برعايات ومسابقات واستعراضات.. ما ساهم في تهيئة الأجواء لقبول الفوضى الهدّامة وكائناتها الشاحبة ومفرزاتها الكريهة.

فإذا ما كانت المؤسّسات الثقافيّة موجودة، والأبنية الثقافيّة قائمة، والمكتبات في المراكز الثقافيّة والمدارس عامرة؛ ما الذي يبقى للإنجاز الثقافيّ؟! الإنسان!
لنعترف؛ لم يكن القيّمون على الثقافة بالمستوى المطلوب، ولم يكن لدى غالبيّتهم العظمى الهاجس الثقافيّ، الذي يستطيع أن يواجه الإعثارات، ويتجاوز المطبّات، ويغافل الحرّاس الجهلة، أو يستميلهم إلى ميدانه المضيء!
وهنا تظهر أهميّة الشخص الحريص على القيام بواجبه الثقافيّ، في البرامج والدعوات والمشاركين والموضوعات، والأهمّ الحوار الذي يتناول ما قُدّم، وأن لا يكون النّشاط عارضاً ومرتَجَلاً ومناسباتيّاً..
ولكن ما هو دور المشاركين في النشاط في تثمين الحال الثقافيّة، من خلال تشجيع الحاضرين على العودة إلى نشاط تالٍ، والمشاركة بفعاليّة..؟!
إذن؛ لا بد للثقافة من عمليّات ثقافيّة أو نشاطات ثقافيّة، وهي تنقسم إلى:
النشاط نفسه: موضوعه ونوعه ومنفّذه والمنبر، والحضور وتفاعلهم مع المادة المقدّمة.
والطيف الثقافي الذي يغلّف هذا النشاط زمنيّاً: قبله وبعده وفي أثنائه؛ ابتداء من الدعوة إليه، وحتّى انتهاء الأثر الذي يخلّفه..
هنا يبرز دور الإعلام في الثقافة؛
الثقافة تحتاج إلى الإعلام، لتعمَّم وتنتشر، ولو من خلال لسان حسود!
أما حاجة الإعلام إلى الثقافة، فهي أساسيّة ليغتني، ويقنع، ويَستثمِر، أو يَستغِلّ!!
قد يسيء الإعلام إلى الثقافة، يشوّهها، يجتزئ منها ما يريد، يستخدمها لغاياته، ويفاخر بإنجازاته لنفسه؛ فيصبح أمراً مهمّاً أن تغطّي النشاط، بدلاً من أن يكون النشاط نفسه هو الأساس!
ولكن هل هناك إعلام مختصّ بالثقافة، أم إعلام عاديّ يكلّف بتغطية ثقافيّة؟!
وهل نحتاج إلى إعلام ثقافيّ، أم إلى إعلام مثقّف؟!
في مختلف الحالات، لا بدّ من الثقافة للإعلاميّ في أي مجال عمل!
كان الإعلام منذ عقود أكثر اهتماماً بالثّقافة، وكانت مادّته أكثر غنى ثقافيّاً، وكان المثقّف أديباً أو موسيقيّاً أو فنّاناً ضيفاً عزيزاً على مسؤولي المنبر الإعلاميّ، وعلى المتلقّين أيضاً؛ فهل ما يزال الأمر كذلك؟! أم غدا المثقّفون متسوّلين على عدسات الكاميرات وحامليها، والمنافذ الأخرى وأصحابها، إلى أن صاروا أُجراء لديهم، أو آراء تحت الطلب، ورهن التوجّهات والمواقف، يحلّلونها ويسوّغونها ويجرّمون سواها، مستخدمين علومهم ومعارفهم، ومسخّرين أوقاتهم وطاقاتهم لخدمة هذا المنبر أو ذاك؛ أي صار حضورهم سياسيّاً وليس ثقافيّاً، وهذا ليس عيباً، فيما لو كان في هذا الحضور تاثير مقوِّم أو مُؤَنْسِن على السيّاسي! لكنّ الأمر للأسف معاكس، فيزيدون في بؤس المشهد الثقافيّ وبالتّالي الحضاريّ؛ فقد يُمارَس عليهم القمع الإعلامي، بحجّة الوقت والمداورة والمشاركات الأخرى: المقاطعة والاعتراض ورفع الصوت والإسكات: أقلّها: “وصلت الفكرة”، في مظهر مهين!
ولا بد من الإشارة إلى أن السياسة الخارجية في سورية رائدة وصلبة ومتينة وواثقة؛ لأنّها ذات بعد ثقافي: الخصومة مع الغرب الاستعماري، الكيان الاسرائيلي هو العدو الحقيقي، الصداقة مع الشرق، الفكر القومي، الالتزام بالوحدة العربية، ثقافة المقومة..
فيما العديد من المثقّفين كان متخلّفاً جدّاً وراء السياسة هذه، حين اختار جهة الخصوم: إيران هي العدوّ، هل نستطيع مواجهة إسرائيل ووراءها أمريكا والغرب كلّه؟! وسوى ذلك.
هل العاملون في الإعلام الثقافي أناس مهتمّون بالثقافة؟!

ملاحظات حول الإعلام الثقافيّ لدينا:
-انتقائيّة في اختيار النشاط أو بعض المشاركين فيه؛ ليست بحسب الأهمّيّة في كثير من الأحيان؛ بل وفق العلاقات، إضافة إلى الغياب عن بعض النشاطات.
-الابتسار في التغطية؛ الحديث عن جزء من النشاط، أو بعض المشاركين وإهمال الآخرين.
-الاهتمام بالأشخاص أنفسهم في غالبيّة النشاطات.
-الحضور المتأخّر، والخروج المبكّر.
-خلخلة النشاط أو التشويش عليه من خلال المقابلات في أثنائه.
-عدم التركيز على الحوار، الذي قد يجري ختاماً للنشاط.
-عدم طرح القضايا الهامّة، والاكتفاء بالتوصيف، إن حدث.
-عدم الاهتمام بالمتلقّين، وإهمال آرائهم وردود أفعالهم.
-الجهل بالمشاركين في النشاط والموضوع والبرنامج والمناسبة.
-عدم تقديم رأي تقويميّ، أو آراء من الحاضرين، أو من النافذة الإعلامية المغطّية للنشاط.
-الاهتمام بالمناسبة والحضور الرسميّ، وصرف النظر عن النشاط وتقويمه.
***

اترك رداً