*المثقف.. هل ما يزال ضمير العالم؟!
**المثقف الحقيقي يبقى ضمير العالم في أيّ ظرف وحال وآن ومآل؛ العالَمِ الذي غدا قريباً بأحداثه إلى درجة العرض المباشر والشاهد العيان، وضاغطاً بتفاصيله وضوضائه على الوقت والنَّفَس والأعصاب إلى حدّ الضيق والنفور والاكتئاب، مع كل ما يقدّم من إنجازات، وما يطلق من اختراعات، وما يفتح من آفاق، وما يكثّف من معطيات، ويراكم من خبرات..
والمثقف ليس طارئاً أو عارضاً أو ساكناً؛ وليس صاحب مهنة تسود أو تنقرض، أو رجل أعمال يوسع في ميادينه وأسواقه، أو يعلن إفلاسه؛ ولا حامل شهادة يبحث عن وظيفة يجدها، أو ينتظر، أو يغيّر الوجهة واليافطة والتسعيرة؛ إنه الغنيّ معرفياً، ذو السموٌّ الأخلاقي، والمثال السلوكي، الواعي المترفّع عن الدنايا، المبادر إلى التفاعل الإيجابي مع مختلف القضايا الراهنة والمرتقبة، الفردية والعامة، وصولاً إلى مستقبل البشرية ومصير الكائنات والتشكلات القائمة والمنظورة في الكون الواسع؛ أي.. إنه ذو الإحساس بالآخر، والشعور بالمشاركة بالقول والفعل والبوح والتأسّي، والإيمان بالسعي إلى الخلاص، والثقة بالنفس والخيّر فيها وفي الآخرين؛ إنه الوقّاف والحقَّ في وجه الباطل بأشكاله ومفرزاته..
إن المثقفين بهذه السمات أو أقلّ قليلاً يستحقّون الاهتمام والاحترام، والإصغاء إلى آرائهم، والنظر في أفكارهم ورؤاهم، وجديرون أن يُسألوا ويُستنصحوا في شؤون البلاد والعباد.. لكن هذا لا يمنحهم حصانة خاصة، ولا ميزة خالصة؛
فالمثقفون بشر يحبّون ويكرهون، يبالغون ويقصّرون، ولهم حاجات ومتطلّبات، ولديهم غرائز ورغبات، ويصيبون ويخطئون، ولهم انتماءات وغايات، ويلقون عثرات وخيبات..
هناك أشخاص معبؤون بالكمّ من المعلومات والخبرات والمعارف، لكنّهم يفتقدون المحاكمة والرؤيا، فتغدو الحياة لديهم آلية أو استهلاكية تحت الطلب، وقد يجدونها فرصاً للكسب ومتاع الغرور، يبيعون حتى المواقف، ويساومون على القضايا الوطنية والقومية والإنسانية، ويشترون المنابر والكراسي والألقاب.. حتى بماء وجوههم، ويستعيرون الشعارات أو يجترّون الهتافات، وهم أكثر تسلّطاً من السلطات المعروفة، وهمّهم إلغاء الآخرين بأيّ حجة ليحلّقوا وحيدين ولو بأجنحة ليست لهم، وبوقود سواهم، ويمكن أن يكونوا وقوداً أو أدوات؛ فمن أين لهم شرف الثقافة واكتوائها وإشراقها؟!
ولا يزال المثقفون يقولون الحقّ في شعوبهم وأوطانهم وحتى خارجها، رغم الضجيج الإعلامي الذي يُقذي حتى المسامات ويشوّش الصور، ويحوّر الوقائع والأصداء، وهو ما بات يسود هذا العصر؛ ويقفون بكل جرأة وشجاعة في وجه أعتى القوى المدمّرة للحواسّ والملكات والطاقات؛ ويقاومون الظلم بمواهبهم ونتاجاتهم وأصواتهم، رغم الجرائر التي توشك أن تأتي على توازن الكرة الجامحة في مسارها المهدّد!
والكرام قليل!!
***
الأديب غسان كامل ونوس
الفئة: رأي
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: غير محدد