اللغة العربيّة والأجناس الأدبيّة
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
ثمّة آراء عديدة، تتّصل بتعدّد الأجناس الأدبيّة، التي يكتبها الأديب نفسه؛ يذهب معظمها مسار التمنّي، المشوب بالاتّهام، أنّ من الأفضل أن يكون هناك اقتصار على جنس محدّد؛ لأسباب أو أخرى. وإذا ما تُركت هذه الآراء جانباً؛ لأنّ الأمر في تقديري ليس خياراً؛ بل هو ملكة وميل وشغف ورغبة وقابليّة، لا بدّ من دوافعها في ذلك؛ بهذه الدرجة أو تلك؛ فإنّ ما لا يمكن إغفاله، ما يأتي من داخل الحالة أو الحالات، من متطلّبات وتحدّيات وإمكانيّات، تستفيد ممّا يَجمع تلك الأجناس، من قواسم/عناصر، ويتداخل في كلّ منها، وتتعمّق فيما يخصّ جنساً عن سواه. ولعلّ من أبرز ما تقوم به الأجناس الأدبيّة، وتُبنى عليه، اللغة؛ وبقدر ما تمتلكه اللغة من غنى وتنوّع- وللغة العربيّة كثير من هذه الميزات- فإنّها تمنح الكاتب مزيداً من الرصيد، الذي يتيح له مديات أوسع وأعمق، في هذا الجنس أو ذاك، ولكنّها في الوقت نفسه، تضع الكاتب، الذي يتميّز بقدر وافر من هذا الرصيد، أمام مسؤوليّات مهمّة ودقيقة؛ من حيث قدرته، على إعطاء كلّ جنس ما يناسبه منه، من دون إغداق حدّ الاستغراق، أو إحجام وإجحاف؛ ما يعدّ دليلاً على تمكّنه من أهمّ أدواته، ونجاحه في التخويض الآمن في أحياز الأدب، والتنافح بتجلّياته، وإذا كان المجال هنا، لا يتّسع للحديث عن خصائص اللغة العربيّة، ولا ندّعي الإمكانيّة المجزية فيه، فإنّ هذا لا يمنعنا، ولا يعفينا، من التفكير في كيفيّة التعامل اللغوي مع الأجناس الأدبيّة المتعدّدة، التي نمضي في رحابها؛ بحرص على أمان، نتوخّاه؛ ومتعة، نتوق إليها؛ وإمتاع نأمل تحقّقه لدى أكبر نسبة من المتلقّين.
ولا بأس من الإشارة إلى الجماليّة الخاصّة، التي يمكن أن تقدّمها اللغة العربيّة للنصّ؛ ما يجعل المسار اللغويّ- أحياناً- جزءاً من التشكيل العام، الذي يفرزه، أو يتظهّر به، وتختلف هذه الجماليّة حسب نوع النصّ، وكنهه، والمادّة اللغوية، وإيقاعها، وانسيابيّتها، وانبثاثاتها البصريّة والسمعيّة؛ وصولاً إلى الإدراكيّة والمعرفيّة؛ حتّى ليغدو، أحياناً، إن كنت في طريقك إلى غاية ما، من غير المزعج أن تتأخّر في الوصول؛ مستمتعاً بجمال الطريق ومشهديّاته وتعرّجاته، وتضاريسه، وروائحه وألوانه!
ومن المهمّ الانفتاح على أنّ من الممكن للأديب ألّا يبقى أسيراً لما هو معهود أو مألوف أو مضبوط، وأن يكون مجلّياً مجترحاً محلّقاً مقدّماً من روحه واتّقاده واندغامه في الحالة، ما يضيف، ويفيض في أحياز اللغة وشعابها؛ ولا شكّ في أنّ لهذا موارد ومختبرات ورغبات وتفاعلات وظروفاً وعوامل مساعدة داخليّة في لدن الأديب، وخارجيّة في الوسط المتلقيّ والحال العامّة؛ قريباً وبعيداً، آنيّاً ولاحقاً.
ويمكنني أن أستنتج من تجربتي في الكتابة في مختلف الأجناس الأدبيّة، أنّ هناك نصوصاً قوامها اللغة، وأنّ اللغة تأخذني- أحياناً- إلى معالم وعوالم ومديات ومعانٍ، لم تكن في الحسبان؛ وفي حالات أخرى، أضغط على نفسي للتخفيف من الاستجابة لمهاميز اللغة وشآبيبها، والانسياق مع جاذبيّتها الماتعة.
ولعلّ في الشعر ما يستوجب حضوراً مميّزاً للّغة؛ مفرداتٍ وصياغات وتشكّلات، وفيه إمكانيّات وتوسّمات لأشكال وألوان لتعبيرات توحي، وتُطايف، وترامح، وتلامح، وتكثّف… وفيه؛ حبّذا لو كان فيه، ما يساعد على التحليق والتعميق والترميز والتطريز، والتحفيز على الانعتاق والعبور والدوران حدّ التسرّي والانتشاء والاكتشاف أو الكشف، وتحتمل النصوص الشعريّة، وتتطلّب، مزيداً من الدالّات الانفعاليّة؛ الشعوريّة، والعاطفيّة، والنفسيّة، من اللغة المتوافرة، واللغة المتوافزة، بصياغات مختلفة، جديدة، أو مجدّدة، واستيداعات معبّرة عن حالة وحالات، أو محايرة بين مقاصد وغايات، ومجترأة على ما هو سائد، من أجل ما هو مرتجى، ومن أجل محاولات أخرى واحتمالات أخرى. وكلّما كان السياق اللغويّ غنيّاً بالمكوّنات والكائنات المرئيّة والمضمرة، المُساكنة والمعايَشة والقابلة للتعايش، المعروفة والمتخيّلة، الأليفة والمشاكسة، المتوائمة والمتنافرة… تضاف إليها أساليب الأديب وإمكانيّاته في توليفها، وتحميلها ما يودّ، وما يمكن أن تحمله، من أفكار وآراء وأحلام وأوهام، وما يطمح إليه من استخراج علاقات من وجودها، تجاورها أو تواشجها، أو انبثاث طاقات وحرارة وحيويّة… كان النصّ أسمى؛ فالقضيّة ليست ركاماً، أو تراكماً، أو تجميعاً، أو استعراضاً للكلمات والعبارات؛ بل هي حال الشاعر في موهبته، وحرّيّته الذاتيّة، وثقافته، ورؤاه، وانفعاله… وهذا ما يُظهر الفرق بين الصنعة والتخلّق، بين الرؤية والرؤيا، بين المكتفي بما لديه، وما يمكن تحصيله؛ حتّى إن كان محفوظاً وثميناً ومشهوداً ومحسوداً، والمنشغل بتدوير ما لديه، والمسكون بتفعيله، وإعادة تشكيله، حتّى إن كان بالحرق والاحتراق! إنه الفارق بين الرائيّ الجوّال، وبين الكشّاف القفّاز المحلّق الجوّاب…
وما قد لا يحتاج إلى تأكيد أنّ الشعر بتعدّد أشكاله، تتعدّد التوقيعات الشعريّة لديه، ويختلف وقعها فيه، لكنّ الحال لا تبتعد بنا- يفترض ألّا تبتعد- عن الأهمّيّة الكبرى للغة الشعريّة المميّزة في نصوصه؛ تقليديّة كانت أم حديثة، قصرت أم طالت، انتمت إلى بحور وتفعيلات، أم لم تنتمِ، ويبقى التقييم الخاصّ بكلّ نصّ رهناً بمتلقّيه، ومتناوليه بالدراسة والنقد؛ من دون إغفال الجانب الذاتيّ في ذلك.
أمّا في النثر الأدبيّ، الذي تتعدّد أنواعه، فإنّ للّغة دورها في التكوين والتشكيل أيضاً، وبدرجات متفاوتة بين نوع وآخر، ونصّ وآخر في النوع ذاته، ولكنّ للعناصر الأخرى أدواراً مهمّة أكثر في النثر منها في الشعر، والمتطلّبات اللغويّة النثريّة تختلف نسبها وتراكيبها، ودرجة تقبّلها، أو تأثيرها على العناصر الأخرى، التي تتشكّل، وتتوضّع في النصّ عن طريق اللغة أيضاً، ولكن بشحنة مختلفة وحيويّة مغايرة؛ وقد قلت ذات حوار: العلامات الفارقة تقلّ في الشعر، وتكثر في النثر، والشعر تحليق وعبور ومحطّات، والنثر خطو وتقافز ومسافات.. ولكلّ منها خصوصيّات؛ واللغة واحدة منها؛ فهناك لغة شعريّة، وهنا لغة قصصيّة، وروائيّة، تسرد، وتفصّل، وتحدّد، وتوصّف، ولغة حوار تناسب الشخصيّات المتحاورة، ولغة تناسب السياق والموضوع المتناول في هذا النصّ أو هذا الجزء منه أو الفصل، وهنا آراء وأحاسيس ونجاوى وتأثيرات وارتدادات نفسيّة وشعوريّة؛ لها لغتها أيضاً، وقد يحتمل نصّ ما حضوراً لغويّاً أكثر من سواه، ويمكن أن يكون لبعضٍ من نصّ نثريّ طويل، فاعليّة لغويّة مميّزة، أو لغة شعريّة بهذا المستوى أو ذاك.
وقد تتباين مفردات اللغة وتعبيراتها وصياغاتها، بين أنواع النثر الإبداعيّة الأخرى، سوى القصّة والرواية؛ كالمسرحيّة، والخاطرة، والمقالة وسواها، وهناك كتابات أخرى موجودة، أو قد توجد. وتحتاج البحوث والدراسات والمدوّنات الأخرى إلى لغة مفهومة شارحة موضحة مفنّدة، لا لغة شعريّة احتماليّة مؤوَّلة.
وفي كلّ حال، لا بدّ من أن تكون اللغة المستعملة في مختلف الحالات صحيحة، ملائمة، مستساغة، ولا يمكن التهاون مع ما ينشر من نصوص بأخطائها؛ ولا سيّما عبر الفضاء الافتراضي؛ من دون أن يعني هذا التقعّر والتطرّف والتحجّر في ما قالت العرب، وما لم تقل؛ وقد تكون في هذا أقوال واختلافات؛ ومن دون الانسياق وراء دعوات مقصودة أو عفويّة؛ بريئة أو مغرضة، لإهمال اللغة وعدم احترامها، حتّى في- ولا سيّما في- النصوص الأدبيّة.
***
غسان كامل ونوس