القصّة والكتابة الأدبيّة
الشارقة الثقافيّة-
غسان كامل ونوس-
تتراوح الكتابة الأدبيّة؛ ولا سيّما القصصيّة والروائيّة منها، ما بين حدّين وهميّين، يشبّهان بالطيف الضوئيّ، الذي يتراوح بين: الأحمر والبنفسجي؛ إذ إنّ الطيف القصصيّ، ينحصر بين التاريخ المحض، والخيال المحض (روبرت شولز)؛ وهما مستحيلان لدى الكائن البشريّ؛ فليس هناك من يستطيع كتابة الوقائع بالضبط، ولا تدوين الخيال بلا أيّة علاقة بالواقع.. وتتفاوت النسبة، التي يقترب فيها هذا النصّ القصصيّ أو ذاك، من هذه الضفّة أو تلك، وليس أساسيّاً تحديدها، ولا يعدّ هذا المعيار باتّاً في تقييم النصّ القصصيّ المدروس، ويبدو نافلاً، في هذا الزمن، وبعد كلّ هذه المراحل، التي قطعتها الكتابة الأدبيّة، والأشكال التي تمثّلتها، إجراء مثل هذه المقاربة؛ كما أنّ الصرامة في تقييم النصّ الأدبيّ حسب تسميته، أو جنسه؛ سواء أشار كاتبه إلى هذا، أو ادّعاه متلقّيه، أو تبنّاه دارسه، قد لا تخرج كثيراً عن ذلك؛ فهناك تداخل بين الأجناس الأدبيّة؛ (تراسل الأجناس الأدبية)، وليس من الممكن الجزم بحدود قاطعة بين جنس وآخر؛ كان ذلك منذ البدايات، واستمرّ حتّى مع التجنيس، وعاد إلى الظهور بوضوح أكبر في الوقت الحاضر. وربّما نحتاج إلى التسمية أو الوسم للدراسة والنقد والمقارنة بين النصوص، التي تختلف درجة تعالقها وتواشجها. وبدهيّ أنّ هذا يتمّ، إذا ما تمّ، بعد كتابة النصّ، لا قبله؛ أي يجري تحديد نَسَبِهِ، بعد إنجازه؛ فلا أحسب أنّ الكاتب، حين يحسّ برغبة في الكتابة، أو تلحّ عليه الفكرة، أو آن يشرع في التدوين، يقول: الآن سأكتب قصيدة، أو سأدوّن قصّة، أو سواهما. وتمكن مقاربة النصّ المنجز، بعد ذلك، بما يشي به، أو يلمّح إليه، وبما يُعرف من عناصر، وسمات وأشكال… لهذا الجنس أو ذاك، من دون أن يكون الأمر لغزاً محيّراً أو مسألة مصيريّة. والأهمّ أن يكون النصّ مقنعاً إبداعيّاً، إلى هذه الدرجة أو تلك؛ من دون أن نتغافل عن أنّ الإقناع مسألة نسبيّة، تتّصل بالمتلقّي؛ حتّى إن كان كاتبَ النصّ نفسه، حين يحاول النظر إليه من زاوية القارئ المهتمّ؛ وأن يكون النصّ الوليد قابلاً للحياة من دون الكاتب، وقد يفرض شكله وجنسه. ولا يعني هذا الانفصامَ بين الكاتب ونصّه؛ فمن المهمّ أن يعبّر النصّ عن صاحبه؛ بمعنى أن يكون للكاتب صوت خاصّ به، وهذا يكون- ربّما- من خلال العلامات الفارقة في غالبيّة نصوصه أو مجملها عن سواها لآخرين، أو هي القواسم المشتركة بين كتاباته المتنوّعة، وهذا في حدّ ذاته، إن تحقّق، إنجاز ينبغي على الكاتب تعزيزه، لا التوقّف عند ما أنجز، أو ما أعجب بعض القرّاء أو النقّاد، فيكرّره الكاتب من دون نموّ أو اكتناز، أو سعي إلى الجديد الأميز، وقد لا حظنا عديدين من الكتّاب، يقعون في هذا المطبّ، في أواخر حيواتهم؛ من خلال كتاباتهم وإصداراتهم؛ وكان أدعى للاحترام أن يتوقّفوا عن النشر، على الأقلّ؛ لأنّ في الطلب منهم الإحجام عن الكتابة خطر الإحساس بالنهاية أو الموات؛ ومن لديه الجرأة والعزم والإرادة؛ ليقول له هذا؟! وكيف؟! وبأيّ حقّ؟!
وفي رأيي، إنّ الأجناس الأدبيّة، لم تصل إلى خواتيم تمايزها أو تمييزها، أو تشكّلها، ولن تصل، وما يزال- وسيبقى- المجال مفتوحاً لأجناس أدبيّة جديدة، ما دام الإنسان يتوالد، ويعيش، ويفكّر، ويهجس، ويشعر، ويحلم، ويتخيّل، ويتمنّى، ويتوهّم، ويحتاج إلى أن يعبّر عن هذا، أو يراوده ذلك؛ ولا سيّما مع التحوّل المطّرد واللّا المحدود وغير المحدّد واللّامنتظم، في سبل الحياة وظروفها ومشكلاتها وأدواتها ووسائلها واكتشافاتها، ولدى كائناتها (العاقلة) وغير العاقلة؛ كبرت، وتعملقت، أو تخفّت، أو صغرت إلى ما دون الرؤية البصريّة بأبعاد تخيّليّة (الفيروسات مثلاً)، وفي أفكار الناس واعتقاداتهم واهتماماتهم وانشغالاتهم.
وإذا كانت القصّة؛ كما أحسّ، بعضَ حياة، فلا بدّ لأيّ حياة من كائن ونبض وحركة وزمان ومكان، وعلينا ألّا ننسى، أنّنا لا نسجّل حدثاً من أجل التوثيق فحسب، ومن أجل أن يتحقّق، ولا نستعرض حلماً مرّ، وانتهى؛ كما أنّنا لا نتوهّم شيئاً عارضاً؛ إنّنا نعبّر عن عواطف وأحاسيس، ونرصد مؤثّرات وملامح ومعالم وحركات، ونبثّ رسائل، وندعو، أو نبوح، أو نرفض، أو نحتجّ، أو نقدّم وجهة نظر في شأن ما، وتفصيل ما؛ إنّنا نضيء جانباً من حياة، نرجو أن يثري، وأن يكون له ردّ فعل- أو ردود أفعال- محسوس ومنظور، أو مكتوم وحاثّ ومحفّز، موائم ومنسجم، أو مشاكس ومعاند.. قد يتكرّر الفعل أو ما يقاربه، أو ما يشابهه، في هذا الزمن أو في أزمنة قادمة، لنا أو لكائنات تخلِفنا، تشبهنا أو تختلف عنّا، وقد يتقارب ردّ الفعل، أو يتمايز حسب المستوى الخاصّ والعام للشخوص والبيئة، والحالات والظروف المرافقة أو المحيطة.
وبما أنّ في القصّة حركة (تمييزاً عن النصوص، التي قد تشترك معها في عناصر عديدة؛ كالخاطرة والمقالة مثلاً)، فهناك مسار مفترض، أو مسارات حقيقيّة أو وهميّة أو متصوّرة، ويكون النصّ أكثر ثراء، إذا ما كان الانتقال عبر طيف عريض، وإشارات ملمّحة، أو متوسّلة، أو مراهنة، أو محتملة، لا عبر سبيل وحيد مرئيّ فاقع، والأفضل أن يجري عبر حزمة أشعّة، لا شعاعٍ يتيم محدّد. وليس من الضرورة- ولا من المفضّل- أن تكون استقامة في المسار؛ بل من الممكن، أن تكون تعرّجات وانعطافات وقفزات، وقد يشكّل المسار ذاته غاية النصّ؛ بما يشاغل، ويوسوس، ويحدس، بتفاصيل وتضاريس وأوقات مديدة، أو متقطّعة؛ إضافة إلى أنّ هناك إمكانيّة للوصول الآنيّ أو اللاحق، أو المفترض، أو المؤمّل، أو المنتظر، وقد لا يتمّ الوصول، لكن الأمل والطموح والإرادة تبقى مشروعة.
وليس على النصّ القصصيّ واجب أن يقول كلّ شيء بشأن ما يطرح، وأن يجيب على الأسئلة القائمة والممكنة حول ما أثير، وأن يقدّم حلولاً، وآراء قاطعة؛ بل من الضروريّ أن يثير اهتماماً أو أحاسيس أو أفكاراً أو تصوّرات، وتساؤلات.
ومن المهمّ مشاركة المتلقّي- المهتمّ- في النصّ القصصيّ- وسواه- من خلال تفاعله معه، ويختلف هذا التفاعل حسب نوعه وصياغته ومتنه ومفاصله، وحسب المتلقّي وخبرته واهتمامه؛ فلا بأس من الغموض الشفيف، لا الإبهام المعتم، ولا ضرورة في أن يكون فهم المتلقّي مطابقاً لما يريد الكاتب، الذي يجب أن يبقى رأيه بعيداً عن المتلقّين، وكلّما ازدادت احتمالات التأويل، وأوجه التفسير، كان في ذلك غنى لمن يتلقّى ولبيئته وزمنه، ناجم عن اكتناز النصّ، وثراء الأدوات والمدلولات، وإمكانيّات الكاتب، التي قد يجهلها هو نفسه!
وهناك أساليب للقصّ؛ مكثّف، أو مستطرد، متّصل، أو مقطّع، مشغول بالوقائع والتفاصيل، أو مكتفٍ بظلالها وانعكاساتها وأصدائها في الحيّز القريب أو الأحياز الأخرى، وبمقدار ما يلاقي النصّ القصصيّ المنجز، والمنشور تدوينيّاً أو صوتيّاً، ورقيّاً أو الكترونيّاً، من اهتمام وتداول وتفاعل، يكون هذا في صالحه؛ وقد لا يكون هذا المؤشّر معبّراً عن إمكانيّات النصّ الحقيقيّة وقيمته الفنّيّة؛ لخلل في الواقع المتلقّي، وقصور في الشأن النقديّ، وعيوب في بيئة التلقّي، وعصره، وقد يأتي ما يستحقّ النصّ من قيمة، والكاتب من صدى، لاحقاً، وفي زمن مختلف، وظروف مغايرة، وتسجّل جريرة الظلم ضدّ مجهول!
***
غسان كامل ونوس