الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي-ليس آخراً
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

القربان

من رحم الأرض الطيبة طلعتُ، مع نسغ الشجر المتعالي سَمَوْتُ، مع خضرة الزرع ومسام الضرع، اندحتُ وتدفقت..
لا أطيق الظلمة، ولا أتحمل الحصار، ولا أصبر طويلاً على الظلم والقهر؛ لا أتوانى عن غوث، ولا أشيح بأحاسيسي عن ملهوف، ولا أتردد أمام الحريق أو الطمي، لعلّ كائناً يفيق، أو ينهض.
لا أفكر كثيراً في من خلّفت، ومن قد يخسرون بفقدي عزيزاً، وهم أعزة؛ بل يشغلني من سيعيشون بسببي، ويَغُذّون الحياة بعدي.
أقف على حدود الظمأ وتخوم الكلأ طويلاً، ولا أتذوّق ما يُقيت حتى يشبع الجميع.
لوني من لون التربة التي تتلقّى الشمس والهواء والمطر خلال الفصول، وحكايتي بدأت، ولا تنتهي!
ليس لي سوى كنوز الأرض أرصدةً، ولا تنضب، رغم أوقات الشحّ وأيام النكران؛ لا موارد مشبوهة، ولا أعطيات زائدة أو غامضة؛ ليست لي قصور مشرعة، ولا بيوت مميزة، لا أقبية مظلمة ولا أنفاق أو أخاديد؛ ليست لي لغات أخرى، ولا جهات أقصدها، ولا غرف سياحية طائرة، أو أجنحة مبحرة، ولا يخوت؛
فيا أيها المسافرون بعيداً لا تنتظروني، ولن تفعلوا! ولستم الرابحين؛ فلن أنكر أهلي، ولن أبرح موئلي.
لست راجماً بلا وعي أو مشاعر، ولا مقيماً الحدّ على من لا ذنب له ولا جريرة إلا الانتماء أو الاقتناع أو الاعتقاد؛ ولا متجنياً على أحد. ولم يكن في نيتي أن أرفع يدي إلا للتحية، رداً لها أو مبادرة؛ ولا أن أخفض رأسي إلا تواضعاً، ولا أحدّق في الآفاق إلا تشوّفاً وتبصّراً.
لم تكن غايتي كشف المستور، ولا التطفل على الأوقات الخاصة، ولا تقصّي الهفوات والنزوات، حتى المفضوحة منها؛
لم أتوقع أن تكون في المواجهة قامات أعرفها، ولا خلف الفوّهات المسدّدة إلى العباد سحنات مألوفة، ولا في الكمين المتربص بي وبالآخرين الآمنين أسماء أليفة؛ كنت أظن –وما زلت- أن ظهري مسنود، ليس إلى الأسنّة المشحوذة بالبسملة ذاتها، تلك التي تقرأ في النذور على الأضاحي!
كنت أظن أنّ الأيدي الممدودة من القرب هي للسلام والاحتضان، لا للتنكيل والتغييب؛
كدت أن ألوذ بها، وكنت سأرتمي إليها من التعب والسهر والحمى!
كنت –وما زلت- أتطلع إلى أن أرتاح في ظل أليف، وركن دافئ، وأن توقظني النسمات العليلة، والأيدي الحانية، لا الحراب الصدئة، والصيحات الضاجّة بلا أذان أو أمان.
أعرف أنّ هذا الموقع لا يليق باستقبال حميم، وهذا المفترق ليس المكان المنذور لانتظار حبيب أو قريب، ولا هذا الجسر أو ذاك المعبر. وليس المكان آمناً للقاء.
لست مفارقاً الجماعة، ولست منبتّاً عن طقوسها، ولا متمرّداً على شروطها، ولا كافراً بظروفها؛
قد أتبرّم ولا أتورّم، قد أتحسّس، ولكن لا يمكن أن أتجسّس، أتفهّم ولا أتوّهم.
لستُ مع القريب الغافل أو الخاطئ، ولا مع الغريب ونواياه القاتمة وأدواته الظلامية؛ لستُ مع زؤان البلد، ولا الحنطة الجلب؛ فأرضي لم تجدب، ولا الغيم أفل!
لا أدّعي أنّني الأجمل الذي خوّض في النّهر، كي يكفّ عن الجموح واجتياح الآخرين؛ فهناك سواي.
لستُ الوحيد الذي لبّى النداء، وكان الفداء لتمرّ الجائحة؛ فهناك آخرون..
لستُ الضحية اليتيمة التي تشتكي عسف الحال، وتعتب على ذوي القربى، وتلوم؛
ولستُ نادماً!
ولو كان بمقدوري أن أظلّ شاهدة، كيلا تفقد البوصلة سمتها، في كلّ آن، لفعلت؛ ولو كان بإمكاني أن أكرّر الفعل ذاته مرات، كيلا تنكسر الجرّة، لأقدمت!
وإنني لعلى استعداد لردّ كيد الأعداء في كلّ حين، والغدر مؤلم؛ وإنني لفي انتظار المواجهة الحقيقية في المكان المشروع، وأيّ مواجهة أخرى طارئة أو عارضة؛
فليست قضيتي مع أبناء جلدتي، وإنّ هذا لشواذ؛ وليست مشكلتي مع أبناء عمّي، وإنّ هذا لجحود.. وعلى الرغم من أنّ الذي بيني وبين بعضهم مختلف جدا؛ فإنّني لوافر لحومهم، وبانٍ لهم مجدا!
فأنا من رحم الأرض الطيبة أطلع، وإليها أؤوب!
***

اترك رداً