الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: د.سمر روحي الفيصل
الناشر: الأسبوع الأدبي عدد 1039
تاريخ النشر: 2007-01-20

جريدة الاسبوع الادبي العدد 1039 تاريخ 20/1/2007
فهرس العدد صفحة جريدة الاسبوع الادبي

الفضاء الروائي في تقاسيم الحضور والغياب ـــ د.سمر روحي الفيصل

يحار قارئ رواية (تقاسيم الحضور والغياب)(1) لغسّان كامل ونوس أول الأمر؛ لأنه يعتقد بأنّ الرواية خالية من بؤرة مركزيّة، تنطلق الحوادث منها، وتدور الشخصيات حولها. فالرواية، أيّةُ رواية، تحتاج إلى قدر من الحوادث، يربط الشخصيات، ويسوّغ حركتها في المجتمع الروائيّ. وقد توافر هذا القدر الضئيل من الحوادث في (تقاسيم الحضور والغياب)، ولكنه لم يكن من الوضوح والتماسك بحيث يشكل بؤرة مركزية قادرة على حفز القارئ إلى متابعتها. والرواية، أيّة رواية، تحتاج في الوقت نفسه إلى شخصيات تخلق الحوادث وتتفاعل معها وتتأثر بها. وقد توافرت الشخصيات في (تقاسيم الحضور والغياب)، فكانت هناك شهلا ومرزوق وسهام ومبروك ونبيل وسليم وغيرهم، ولكنّ هذه الشخصيات، مجتمعةً ومنفردةً، لم تكن موضع اهتمامٍ في الرواية، بحيث يضع القارئ يده على شخصية مقنعة بسلوكها الروائي، مؤثِّرة بدلالاتها المباشرة وغير المباشرة.‏

والحقُّ، في رأيي، أن رواية (تقاسيم الحضور والغياب) تحتاج إلى متلق صبور، يبتعد عن كونه قارئاً عجلاً يبحث في الرواية عمّا اعتاده في قراءاته السابقة، وخصوصاً قراءاته النصوص الروائية التقليدية، فالمتلقي الصبور وحده هو الذي يلاحظ سعي الراوي إلى تقديم المكان، وهو هنا قرية المسكونة، ثم يدقق ليلاحظ اختراق الشخصيات المكان، وتشكيلها الفضاء الروائي الخاص بقرية المسكونة. وأزعم، هنا، قبل تقديم المكان والفضاء، أنّ هناك نوعاً من (الإلحاح الروائي) على (قرية المسكونة)، تجلّى في عودة الراوي إلى الحديث عنها وحدها(2). فقد بدأ بها الفصل الأول من الرواية، وأنهاه بها. ولم يكتف بذلك، بل راح يتنقل بين شخصيات القرية في الفصل من الثاني إلى الثاني عشر، دون أن ينسى تخصيص صفحات، تقلُّ أو تكثر، للحديث عن قرية المسكونة وحدها، بحيث تبدو قرية المسكونة بالنسبة إلى المتلقي الصبور المدقّق إيقاعاً لرواية (تقاسيم الحضور والغياب)، أو أشبه بالإيقاع الناظم لحركة الفضاء الروائي فيها.‏

أولاً: المكان الروائي:‏

حرص الراوي، وهو هنا راوٍ عالم بكلّ شيء، على تقديم قرية(المسكونة) على أنها قرية (جبليّة) تعيش وسط الطبيعة، ولكنها فقيرة تضطر إلى سوق بناتها إلى بيروت ليعملن خادمات. وقد ضرب الراوي على ذلك مثلاً بشهلا التي لم تستطع الصبر على هذا العمل، فعادت إلى القرية لتعمل راعية، ولكن صديقها مرزوقاً افترعها وترك القرية هارباً. ويضمّ المثال نفسه عرضاً للمرات الثلاث التي سيقت فيها شهلا إلى بيروت قبل أن تألف مفهوم (الخدمة في بيوت الأثرياء)، وكانت في المرتين الأوليين في نهايات مرحلة الطفولة، وبلغت في المرة الثالثة، وكاد سيد المنزل يعتدي عليها لولا قدرتها على التخلص منه، وهربها وعودتها إلى قرية المسكونة بعون من أحد الرجال الأتقياء.‏

لا أشك في أن الفصل الأول من الرواية يوهم المتلقي بأنه مقبل على متابعة حكاية الفتاة القروية (شهلا) لمعرفة مصيرها بعدما هرب مرزوق من القرية وتركها وحيدة ضعيفة تواجه مصيرها دون أن يشفع لها أحد لتفريطها في شرفها. بيد أن هذا الوهم سرعان ما يتبدد. إذ إن الفصل الثاني يعرض مجموعة من الفتية (واصف-نبيل-سليم-سمير….) تتحاور في أمور صغيرة، ويوحي وهو يتابع ثرثرة هؤلاء الفتية بأن الزمن تغيّر، وأن بيروت أصبحت تعيش في زمن الحرب، وأن العمّال القرويين الذين كانوا يعملون فيها عادوا إلى قراهم. وقد يبقى شيء من الوهم نتيجة اعتقاد المتلقي بأن (الراوي) قفز إلى الأمام سنوات عدّة ليحقق غرضاً فنياً. ولكن شيئاً من ذلك لا يتحقق في الفصل الثالث، ولا الرابع، ولا الخامس، ولا في أي فصل من الفصول اللاحقة كلها، بل يبقى الراوي يتابع ثرثرة الفتية، متنقلاً من موضوع حوار إلى موضوع آخر دون أن ينمّي شيئاً، أو يبلور قضية. كلُّ ما يفعله هو نثر بعض المعلومات عن (شهلا) التي تزوجت (الدرويش) ستراً لفضيحتها، ثم جُنّت وأودعت مستشفى الأمراض العقلية، وعن عمّال المرفأ الذين يسرقون من حمولات البواخر ما تقع أيديهم عليه، وعن مرزوق الذي عاد إلى القرية بعد أن بنى بيتاً حديثاً فيها، واستقال من الجيش، واستقرَّ في القرية ناسياً ماضيه، مصطحباً ولديه (مبروك وسهام) معه، تاركاً زوجته المدينية في المدينة، دون أن يحقق شيئاً غير الوهم بأن شهلا لم تمت، وأنها تركت المستشفى عائدة إلى القرية للانتقام منه.‏

هذا هو المكان الروائي في (تقاسيم الحضور والغياب). لا شيء متميزاً فيه. كانت بناته يعملن خادمات في بيروت، ثم أصبح شبّانه عمالاً فيها، وانتهى أمر العمل بعد اشتعال الحرب، دون أن يكون في الرواية أيُّ أثر للخادمات أو العمال أو كليهما معاً. كما أصبح بعض أبناء هذا المكان يعمل في المرفأ، ويسرق من البواخر التي ترسو فيه، دون أن يخلف ذلك في المكان أثراً إيجابياً أو سلبياً. هناك، في المكان أيضاً، آل التوفيق، وهم أسرة كبيرة غنية متنفِّذة، جاء مرزوق ليحلَّ محلها، ويمارس الشعوذة بدلاً منها، ولكن عمله لم يخلف صراعاً ولا منافسة بينهما. والراوي نفسه يصرح في أخريات الرواية بأنه ليس في (المسكونة) شيء يغاير ما تضمه القرى الأخرى في المنطقة: (فالتعلق على سفوح الجبال، ومقارعة الجراح، وانتظار أموال البوارتة، والانشغال بالأخبار الداخلية والخارجية، والأحداث القريبة والبعيدة، لا يكاد يفرِّقها عن بقية القرى)(3).‏

ثانياً-الفضاء الروائي:‏

إذا كان المكان الروائي هو المكان اللفظي المتخيّل؛ أي المكان الذي تصنعه لغة الروائي انصياعاً لأغراض التخييل الروائي وحاجاته، فإن (قرية المسكونة) هي المكان الذي ابتدعه غسان كامل ونوس، سواء أكان أصل هذا المكان حقيقياً في الواقع الخارجي أم لم يكن. ولكنه لم يبتدعه ليسميه ويرسم صورته؛ أي ليجعل منه مكاناً روائياً فحسب، بل إنه سمّاه ورسم صورته ليحدِّده، ويجعل هذا التحديد منطلقاً للفضاء الروائي. وبتعبير آخر، فإن غسان كامل ونوس رغب في تحقيق غرض تخييلي، هو بناء فضاء روائي يجسد بوساطته دلالة معينة. ومن ثم جعل قرية المسكونة مكاناً روائياً، وشرع يبتدع من هذا المكان فضاء روائياً ذا دلالة.‏

على أن المشكلة الروائية؛ ههنا، هي أن الفضاء الروائي لا يتشكل من مكان روائي واحد. وكانت هذه المشكلة تحتاج من غسان كامل ونوس فضل عناية لسبب سأوضحه لاحقاً؛ لأنني معني هنا بالقول إن هناك امتدادات مكانية لقرية المسكونة:‏

-أولها في الترتيب الروائي بيروت، وهي مكان روائي نظرت إليه شخصيات الرواية على أنه مكان عمل ومورد رزق، في شكل خادمات سابقاً، وفي شكل عمّال لاحقاً.‏

-وهناك المرفأ، وهو مكان روائي ثان، ولكنه هامشي جداً إذا غضضنا الطرف عن دلالة السرقة على انحراف القيم، وهو انحراف يعزز الشك في مصدر أموال مرزوق.‏

-أما المكان الروائي الثالث، وهو أكثر الأمكنة قيمة في الرواية، فهو (الكهف) الذي اتخذه الفتية مستراحاً لهم، واتخذه مرزوق مكاناً لممارسة الشعوذة.‏

هذه الأمكنة الروائية الثلاثة مجرّد امتدادات مكانية، ولكنها مقبولة لسبب واحد، هو أن الفضاء الروائي يعني العلاقات المكانية؛ أي العلاقات بين الأمكنة والشخصيات والحوادث. ولو عُني غسان كامل ونوس بهذه الامتدادات المكانية لأضفى على الفضاء الروائي لقرية المسكونة عمقاً ومتعة، وجعله أكثر تأثيراً في المتلقي. ولكنه، على أية حال، لم يهمله إهمالاً كاملاً. ذلك لأن بيروت (المكان الأول) دلَّ على أن (قرية المسكونة) فضاء طارد لأبنائه، فهو يرسلهم إلى بيروت خدماً وعمّالاً، ويسمح باستغلالهم من أجل المال.‏

ولأن المرفأ (المكان الثاني) دلَّ على أن السرقة من مكان العمل لا علاقة لها بالمرفأ، بل هي عامة، يدل على ذلك مصدر أموال مرزوق. ولأن الكهف (المكان الثالث) مكان للثرثرة غير المجدية، ومكان للشعوذة والاحتيال على الناس البسطاء الذين يبحثون عن حلول لمشكلاتهم.‏

وهذه الأمكنة الثلاثة، في الوقت نفسه، امتدادات للمسكونة؛ لأنها نابعة منها، معبرة عن القيم السائدة فيها. فالمسكونة هي المكان الذي تستّر على جريمة مرزوق، ودفع شهلا إلى مستشفى الأمراض العقلية، ولم يعترض على آل التوفيق، وسكت عن سعي مرزوق إلى الشعوذة. والمسكونة أيضاً هي المكان الذي يرى قطع الأشجار لصنع الفحم أو بناء مسكن مخالفة لقوانين الحكومة يمكن تجاوزها بالرشوة. والمكان نفسه، من قبل ومن بعد، مكان للثرثرة. لا أهمية للوقت فيه، وليس للحوار بين أبنائه هدف مفيد. فالمصمودي، وهو ليس الممثل الروائي الوحيد لرغبة في (الحكي لمجرد الحكي) لا يطلب من (أم سعد) شيئاً غير محادثته؛ لأن زوجته وأبناءه مشغولون عنه. والفتية يثرثرون ويتلاعبون بالكلام، ويجنحون قليلاً أو كثيراً إلى البذاءة والنميمة، دون أن يخرجوا من ذلك كله بطائل.‏

أقول إن الفضاء الروائي هو هذه الأمكنة كلّها والعلاقات بين الشخصيات التي حلّت فيها واخترقتها. ولكن هذه الشخصيات فعلت ذلك لتقدِّم دلالة إيجابية. أو قُلْ: فعلت ذلك لتقدم فضاءً خاوياً ولكنه ليس خالياً من الدلالة. وههنا نحتاج إلى أن نتذكر شيئاً أشارت إليه الرواية مراراً، ولكنها لم تبرزه، ولم تعطه أهمية على الرغم من اهتمامها به. ذلك أن الفتية الذين يثرثرون يتصفون بثلاث صفات:‏

-الأولى أنهم جيل مغاير للجيل القديم. لا ينسجمون جميعاً مع سابقيهم، وقد يسخرون منهم، ولكن أهدافهم غير واضحة قياساً إليهم.‏

-والثانية أنهم غير متساوين في الثرثرة. يرغب بعضهم فيها، وينفر آخر منها. وقد انتقل اختلافهم في هذه الصفة إلى القيم. ففي حين أصبح سليم تابعاً لمرزوق، منفِّذاً أوامره، نفر نبيل من مرزوق على الرغم من أنه عمه، ورفض ممارساته، وكاد يواجهه ويعري ماضيه.‏

-والثالثة أنهم طلاب يدرسون لنيل إحدى الشهادات؛ أي أنهم متعلمون. وفي هذه الصفة تكمن الدلالة النهائية للفضاء الروائي، وهي الدلالة التي انتهت الرواية بها. إذ صرح الفتية قائلين في آخر كلمات الرواية: لقد نجحنا.‏

إن الدلالة الإيجابية للفضاء الروائي تكمن هنا. فالنجاح في الشهادة يوحي بأن هذا الفضاء الروائي المملوء بالثرثرة والعنعنات الصغيرة والكبيرة والجرائم والفقر والحاجة، قابل للتغيير. والمؤهِّل لتجسيد هذا التغيير هو الجيل الجديد، دون تحديد المراد منه؛ لأن السياق السابق صنَّف، بشكل مباشر وغير مباشر، الشخصيات بين مغاير للجيل السابق وتابع له. ولعلَّ (النجاح) نفسه إيحاء آخر بأن الفضاء الروائي لقرية المسكونة قابل لتعميم التغيير مادامت المسكونة لا تختلف عن القرى الأخرى في شيء.‏

الإحالات:‏

1-دمشق 2001.‏

2-تقاسيم الحضور والغياب، ص 7-25-43/44-50/57-79…. على سبيل المثال لا الحصر.‏

3-المصدر السابق، ص 172-173.‏

E – mail: aru@net.sy

اترك رداً