ليس الأمر موتاً من أجل الموت، ولا كرهاً للعيش، أو كفراً بالنعمَيات، أو تبرّماً من شظف وشحّ، واستنكاراً لتصرفات، وتعطيلاً لإمكانيات، وتبديداً لطاقات..
وليس توسّلاً للآخرة طمعاً بملذاتها، ولا تسريعاً للقاء مع حورياتها، ولا تلبية دعوة للتشبّع بخمرها؛ فذلك أجر مجزٍ يُرتجى لقاء عمل جليل، ومكافأة قيّمة على فعلٍ خيّر يرضي الخالق والمخلوق..
ولا تلذذاً بقتل الآخرين، أو التمثيل بهم، أو تغييب البسمة والأمان عن ملامحهم وأوقاتهم..
بل هو دفاع مشروع عن النفس التي تحبّ أن ترتاح وتنتشي، والكيان الذي يسعى إلى أن يغتني ويكتسي.. ودفاع عن الحقّ في استثمار العمر بكرامة واحترام، والحقّ في اختيار السبيل والزميل والخليل..
وإنه لسموٌّ بالسيرة والسمعة، وتكريمٌ للحياة المحدودة الأيام والسنين بالخلود النبيل..
وهو يعلم أنّ في التضحية خسارة تحول دون خسارات، وفي الفداء قيمة كبرى يستحقّها المفتَدى، وفي الفقد حضوراً لمعانٍ عظيمة، وتحقّقاً لأمانٍ عزيزة، وامتداداً لظهورات ومكرمات، ونهوضاً لهمم، وانتصاباً لقامات وهامات؛ وهو يعلم أنّ هناك من سيبكيه، ويفتقده، ويحتاج إليه، وهناك من ينتظره، ولا من يسدّ مكانه؛ لأنه فلذة الكبد، أو الأب، أو رفيق الدرب، أو الشقيق، ولأنه المعيل أو العضد، أو المأمول. ولأنه قبل هذا، وبعد ذاك.. وفي أثناء كلّ ذلك، كائن مُرضٍ، يمضي في دربه الذي لا يجادل في صوابية سَمْتِهِ عاقل، ولا يُختلف على جدواه الراهنة واللاحقة، ولا يلوم على سلوكه مُنصف..
وليس الشهيد حاقداً، ولا ناقماً، ولا ناكراً، متنكّراً، أو غادراً ماكراً.. ولا يدّعي أو ينافق، ولا يساوم أو يجامل، ولا يستكين أو يتخاذل، أو يهون!
إنه المدافع عن الأرض والعرض في مواجهةِ المعتدي الخارجي المتبصّر الذكي المتقدّم علوماً وإنجازات، ومقاومةِ المخرّب الداخلي، الجاهل والإرهابي والمرتزق، والمكفِّر، والمحاسِب الأرضيّ على الانتماء والرأي والموقف..
هو الغادي إلى وظيفته، مدرسته، أو جامعته، حقله، أو مَشغله، أو نزهته.. أو القائم بواجبه الوطني والاجتماعي، والراجع إلى بيته..
الآمن – كان آمناً- في داره، أو حيّه، أو مدينته، أو قريته، أو مزرعته..
إنه العسكري، والمدني، المواطن السوري..
لعله الجامع المانع.. الشهيد: نبضُ الوقت، وسيّالة الكرامة، وتاج العطاء، وكوكبة القيم، وخلاصة المعنى..
نضارة النفس، وضراوة الإحساس، وضراعة المقهور، وسلاسة البوح، ونصاعة الرؤيا، وعذرية السريرة، وروحية الإسراء، وفروسية الريادة، وتوق البراعم.
الأضواء منه، ولنا قبس وانتثار، الزمان كلّه له، ولنا منه بعض أعمار وأقدار.. فنتابع البذل للبناء والتحرر من الهيمنة والاستغلال والقرصنة والفجور، والتخلص من الأدران والبثور والأوثان في النفس والجسد!
لولاك ما كان الجلاء، ولا البقاء تكلّل، ولا توثّب النماء، ولا تألّق العطاء..
نتعجّل العودة، وتتعجّل الرحيل، نتعوّد التردّد والتكاسل، وفي جبينك المهماز..
نتجرّع الألم، ونتكيّف ونتليّف، ومن لونك الترياق يشعّ وينتثر.
تبترد مشاعرنا، فيشعلنا قبسك، تتقرّح شفاهنا بالصراخ، وتتعب أفكارنا في صوغ المصطلحات، وأيدينا في رفع الشعارات.. وصوتك الأمضى، وطيفك الراية؛ رائد في الميدان، وقائد في المسير، وومض في الأفق القاتم، وانفتاح على الفضاءات، ورحابة لا تملّ، وسحابة لا تَضِلّ..
بك تتوحّد الغايات وتتحدّد السموت، وتتشامخ الفروع، وتتجوهر القلادات، وتتسارع النسوغ.. ومعك تتعمّق الجذور، وتشرق الزهور، وترقص النسور، ويسعد الإيمان بحلّة البرهان، ويمرح الأمان..
أنت فيض النعم، وتجدّد الهمم..
العابرُ للحدود والفواصل، الواصل بين العوالم، المترفّع عن السؤال، الغنيّ عن المغانم، الغائر المقيم، الراسخ المغير، الطيف والنداء والرجاء والخلاص.
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الفيسبوك الصفحة الرسمية
تاريخ النشر: 2016-05-06