أيّهما أفضل؟!
أن تبقى كشاهد زور، أم أن تنسحب من الموقع الذي أنت فيه؟!
…انسحاب يمكن أن يخيّب من كانوا يرفعون إليك صوتهم، أو صورتهم، أو ظلّهم، لتوصله إلى أماكن لا يستطيعون حتّى أن يحلموا بالوصول إليها، ويمكن أن يشعرهم بالخسران، لا بالخذلان؛ وهذا عزاؤك؛ إنّهم يعرفون أنّك لم تعد إليهم، إلى مواقعهم التي لم تبرحها أصلاً، إلّا لأنك لا تريد أن تخذلهم، لا تستطيع أن تجعلهم يتمادون في الوهم، أو يبالغون في الحلم، كما لم تستطع ذلك أنت!
يمكن لسواك أن يفعل ذلك، أن يستمرّ في ممارسته، ويستسيغه ربّما، أو يستعذبه، حتّى من دون حلم، وبكثير من الوهم.. هؤلاء هم المشكلة؛ عرفتَ ذلك، وعبّرتَ عنه، وهذا ما زاد من حدّة المواجهة، وزاد من عدد المواجهين، حتّى باتوا هم الخصوم الحقيقيّين.. وتخفّى ذلك البارع في التقنّع، والتحوّر، والتقلّب، وتقدّموا إليك، معاتبين أولاً، ومعنِّفين، وموافقين على أن يتطهّروا منك، من لاءاتك، واعتراضاتك، وتحفّظاتك التي لا تكاد تنتهي.. وحسبوا أنّهم الفائزون، وهم ليسوا سوى مردّدين في جوقته، هو الذي لا صوت له منفرداً، ولا يمكن من دونهم، من دون أمثالهم، أن يظلّ له وجود أو تأثير. هم يعرفون، ويسكتون، ويتحرّكون كالبشر، يقولون ويضحكون، ويجتمعون ويوافقون.. يقرؤون ويكتبون، وينشرون، ويطالبون بحدّة، بما ليس بذي بال، ويحردون من أجل نتفٍ أو بقايا، ويستمعون، يشربون الكثير من المنبّهات التي فقدت مفعولها بفعل الغليان المتكرّر، بأمر أو من دونه، ويستمتعون؛ أم أنّ مفعول التحسّس مفتَقَد لديهم، فيستمرون في سكرتهم وفكرته، ويمازحون وينكّتون، ويَظْرفون، والطرفة هم؛ بل المشكلة، المصيبة، الكارثة.. والسؤال الذي يقصدهم، لا جواب له: أفلا يشعرون، أفلا يعقِلون، أفلا ينظرون؟!
إنهم محاصِرون مناصِرون الظالم، من دون أن يردّوا الظلم، أو يردّوه عن ظلمه على الأقلّ، إن لم نقل: إنّهم قاتلون!!
كان يمكن أن تبقى طويلاً، وهناك من هو ممتنّ لك؛ لأنّك دليل على أمر مطلوب، ومؤشّر إلى وسمٍ يرتاح إليه، يحميه، أو يسنده، أو يسوّغ له.. ويبيّض وجهه، ويفاخر به..
كان يمكن أن تبقى فترة أطول، هناك من لم يتجرّأ على أن يفعل ما فعلت، أُخرِج بحماقة أو غفلة أو غباء! هناك من بقي محاصَراً على أمل أن تتحقّق الوعود، وتنقلب الطاولات، وتتطهّر المواقع، وتترتّب الأمور، وتصلح الأحوال.. وظلّوا طويلاً، حتّى ملّوا، وتقاعدوا، و”ماتوا كما يموت البعير”!
أنت لا تستطيع ذلك، ولا تقبل أن تكون غير ما تقول، وغير ما تكتب، وغير ما يقرأ عنك الناس، ويقرؤون لك..
لا يمكن أن تكون شاهدَ زور على مرحلة تتآكل فيها البراعم، وتتسوّس السواري، وتُنخر المتون.. وتُحسب عليك بأنّك كنت، ولم تكن، شهدت ولم تشهد، عرفت ولم تعترف.. صحيح أنّك لست طفلاً لتقول: إنّهم عراة! ولكنّك لستَ أعمى؛ فلا ترى، ولست عاجزاً؛ كي لا تتحرّك، ولست قاصراً، حتّى تنتظر من يسمح لك بذلك.. هذه بدهيات لا يمكنك أن تتجاهلها، ولا أن تتجاوزها، أو تتغافل عنها، إكراماً لنفسك الأمّارة بالأنفة والكبرياء، وثقتك التي لا تسمح بالتشكيك بقدراتك وإرادتك، التي لا تحتاج إلى اختبار جديد!!
فهي ليست المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة!!
ليست المرة الأولى، التي تخرج فيها بنفسك، وتنبتّ، ولم تكن بمثل هذي الحال؛ لم تكن معروفاً، ولم تكن ملامحك قد تحدّدت، وكيانك قد استقام، وبَلَغ، وحاجاتك كانت فاقعة وحارقة، ومتطلّباتك أكثر وأكبر، ولم تتوانَ أو تتردّد، ولم يكن من ينظر إلى فعلتك تلك؛ لأنّك لم تكن في الموقع المنظور، ولا في الركن المضاء، كان يمكن أن تستمرّ وتجني وتثري.. والأيدي ممدودة بما تحمل، والقبضات وما تخبّئ..
ولم تتأخّر، ولم تتردّد، ولم تنتظر… ولم تمت!
الوضع الآن مختلف، صار هناك من يخاف أن تخرج؛ لا حرصاً عليك، وإكراماً للخصال، وانتصاراً للقيم؛ بل حرجاً من مواقف لا يستطيعون أن يقوموا بمثلها، ولا يحمونها، وقلَقاً من أسئلة بلا أجوبة!!
لم تكن سهلاً، ولن تكون!
لست مدّعياً؛ بل مبيّناً حقائق وأسباباً..
لستَ عاصياً متمرّداً، ولستَ مطيعاً بلا حدود؛
لستَ ناكراً لجميل لم تعطَه، وحقّ لم تأخذه!
لستَ معارضاً من الخارج، حاقداً من الداخل؛
لست مخلّصاً للمظلومين المقهورين الحيارى؛ لكنّك مُخْلِص وفيٌّ أمين..
لستَ منفّراً أو منكِراً؛ بل مذكّراً، والذكرى قد تنفع المؤمنين!
لستَ منتظِراً ولا متشوِّفاً محموماً؛ بل راضياً، طامحاً، آملاً، مغتبطاً؛ أنّك لست من الشياطين، حتّى الخرس منهم!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: فارس العرب
تاريخ النشر: 2015-04-01