من بلوى المرء أحياناً أنّه ينفعل تحت وطأة حدث ما، أو موقف أو سلوك، فيفقد حاسّات الرؤيا البعيدة،واستشعارالخطا السديدة، فيتخبّط في موقعه، كعالق في طمي غامض،
كلّما تحرّك ابتلعته اللزوجة أكثر، أو اشتبك مع نتوءات تتشبّث بأطرافه أكثر، وقد يتخلّص من ردائه الواقي، فيتعرّض لخطر الرماة أكثر فأكثر..
فقد خرجت في سورية خلال الأشهر السابقة، ولا تزال تخرج، أصوات تدعو إلى طلاق العروبة ثلاثاً، وأن يكون الطلاق بائناً بينونة كبرى؛ وهذا معناه الانخلاع عمّا تنامى مع أعمارنا ووعينا، وتشرّبناه عبرمساماتنا، وتشبّعنا به في البيت والمدرسة والمؤسسة والإعلام والحزب والشارع واليوميات، في المستويات العامة والخاصة، في الميادين المدنية والعسكرية، والمجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتقرّيناه في التاريخ والجغرافيا، في الملامح والأنفاس والخلايا، تغنّينا به في الأناشيد والأهازيج،ننشغل بجذوره في مراجعة الماضي، ونهتمّ بتجليّاته في الحاضر،ونتوسمه في رؤى المستقبل..
إنّ في مثل هذه الدعوات خروجاً على المنطق، وانبتاتاً عن الأصول، وابتعاداً عن الموارد، وانكفاء يسبب الجفاف والجدب والضعف أكثر، حتّى لو كانت مساهمتنا أساسيّة، وغيومنا مدرارة، وينابيعنا دفّاقة؛ وحتّى لو كانت لنا جهات أخرى داعمة، وأنهاراً أخرى سيّارة!
فإذا ما عقّ بعض الأشقّاء، وتنكّر للدّم والموئل والمصير، وكان فعله أمضّ من وقع الحسام المهنّد، لا يمكن أن نكفر بالنسب، ونقطع حبل السرّة مع الجميع؛ فإنّ فيهم من لم يعقّ؛ بل إنّ الكثيرين لم يفعلوا، وعلينا تبيّنُ ذلك، وهو ظاهر ومعروف؛ فلو كانت الغالبيّة الشعبيّة فعلت ذلك لانقلب المشهد!
صحيح أنّ منهم من جاءنا مجاهداً، وقد ضلّ بوصلة الجهاد، وفيهم من حمل سلاحاً أو دفع ثمنه، واتخذ مواقف ظهرت جليّة في الإعلام والسياسة والاقتصاد وسواها، أو أسهم في استئجارها؛ لاشكّ في ذلك، ولا يزال بعضه قائماً؛إضافةإلى المسؤولين الذين جاهروا بمحاولات النيل من سورية، ودعوا إلى غزوها خارجياً وداخلياً، واشتغلوا على ذلك، ومنهم من لا يزال يقوم بذلك؛ لكنّ هذا لا يستدعي إطلاقاً الكفر بالعروبة، والانعزال عن مكوّناتها، والانقطاع عن تربتها،ولا يمكن تنفيذ ذلك؛ أفليس في داخل البلد من فعل مثل هذا؟! أليس في ظهرانينا من خرّب وقَتَل، افترى ونصب واحتال وهان واستهان، ومالأ الخصوم واستعان بالعدو؟! أليس فينا من ثقب أكثر من حيّزه في السفينة التي تقلّنا جميعاً، ليدخل الماء المالح؛ بل سوائل الأسيقة والمخلّفات الملوثة؛ فماذا نقول عنهم/عنّا؟! وكيف نتعامل مع حال كهذه؟! هل نقطع أوصالنا، ونبدد ما بقي من طاقاتنا؟! نستسلم، أو ننهار، أو ننتحر؟! أم أنّ من الواجب أن نقرأ الأسباب والعوامل التي أدّت إلى ذلك، ونسعى إلى التحصّن أكثر، والتبطين الجيّد الذي يحول دون الانبعاج أو الالتواء أو التحلل أو الانصهار السريع لرقّة وهشاشة وضعف؟!
وفي البلاد العربية أخوة لديهم الكثير من أصالة تؤكّد الوشائج والعلائق، وفيهم النبل الذي يعترف بك، ويقدّر بادراتك وأدوارك، ما كان منها، ولا يزال ينتظر؛ لأنّ خصالك/خصالهم مصونة، وتحفظ قدرتك على الاستمرار وإعادة العجلة إلى سكّتها، ولا يزال يرى فيك الامتداد الطبيعي المنطقي العقلاني؛ فكيف ولماذا نخسره في فورة غضب؟! ولماذا نتنكّر لمشاعرهم في فترة اعتلال وابتراد؟! وفي صالح من يتمّ ذلك؟! ومن الذي يعوّض؟!وإذا ما كان الأعداء قد نجحوا في إثارة الشقاق والافتراق زمناً مع الخارجين على الأخلاق والمنطق والعقل؟! وأسهموا، ويسهمون، في تكريس ذلك، وتعميق الأخاديد، والتغلغل في الأنفاق؛ فهل نكافئهم بأن نحفر من جهتنا أيضاً، ونبتعد في ضفّتنا التي ستخفت شعلتها وتتعثّر حمايتها، أو ستزداد كلفة صمودها، وسيتطلّب نموّهاأكثر..
إنّ أياماً قليلة أمضيناها في عُمان، بين أشقاء حقيقيين، من عُمان، والأقطار العربية الأخرى، تؤكّد أنّ لنا رصيداً مهمّاً في الوجدان والذاكرة والعواطف، وحضوراً في الفكر والوعي. وأنّ لنا الكثير في الحاضر رغم مرارته، والماضي وما شابَهُ من اعتباط وحماسة، والأهمّ أن مصيرنا واحد، وعدوّنا واحد، وأهدافنا هي ذاتها..
ونحن-كما يؤكدون- رصيد لهم أيضاً، وفي الخسارة التي تصيبنا خسران لهم وفجيعة؛ يحسون بذلك، ويعلنونه، ويبوحون بما هو أكثر مرارة ووجعاً؛ فهم يشتكون أيضاً، ويحتاجون إلينا حاجة نفسية وعاطفية.. وفي صمودنا قوّة لهم، وإعادة تموضع للقدرات والقوى التي كادت تفقد مواقعها، أو أسباب مِنْعَتِها، أو بوصلتها أيضاً.
القتامة ليست في أصل المشهد؛ بل هي العكارة والتشوّش والخيبة والفقدان.
إنّنا أمّة واحدة، فُرِّقْنا وتَفَرَّقْنا، مُزِّقْنا وتَمَزّقْنا؛ فهل نستمرّ في التشتّت والتفتّت، ونساعد في ذلك، بأيدينا وأسلحتنا الفاسدة، وأفكارنا السوداء؟!
صحيح أنّ الثقافة كانت جامعتَنا في مسقط، فلتكن الثقافة جامعتنا في مختلف الميادين!
فيا من كنتم في عُمان خير الأشقاء، وأطيب الأصدقاء، ويامن أنتم في عُمان والبلاد العربية الأخرى لا تزالون على العهد، رغم افتعال البعد،واختلال الموازين؛ ويا أبناء سورية الذين تعرفون قدركم ودوركم ورصيدكم، وتعرفون أنّ فضاءكم أبعد، ومدياتكم أوسع، وأصداءكم تُسمع.. هلمّوا إلى ضَفْرِالمساري، وشبك الغصون، وردم الهوّات، وجَسرِ الخنادق، ورأب الصدوع..