الحياة في شاعر
نديم محمد
غسان كامل ونوس
هناك مبدعون يمثلون جانباً أو أكثر من الحياة، وقد يتميزون؛ لكن من النادر أن تجد أحداً كالشاعر نديم محمد، يُعدُّ تعبيراً جليّاً عن الحياة: تغيراتها العادية وتبدّلاتها الطارئة، سيلانها السلس وتدفّقها الشلالي، صفوها المؤقت وعكرها المديد، انفراجاتها المواربة وعثراتها المتكاثفة، الرضا العارض والتبرم المقيم، الهدوء المشحون والنزق العاصف، التعلل المواسي والعلة الملحاحة..
إنه القلق الذي يجعل المبدع باستشعاراته الطائلة، وإحساساته سريعة الاستثارة، قادراً على تقرّي أدقّ التفاصيل، وتفهّم أوهى الملامح، وقراءة الوقائع والإرهاص بالأحداث، وتحويلها إلى أثر فني؛ وباستطاعته تحويل الانفعال الطبيعي الإنساني بحبوره أو نفوره، إلى مشاهد ومواقف وإشارات وصور ومعان، تتردد أصداؤها الثرة في فضاء النفس بإيقاعات فريدة زمناً يطول.
ولا شك في أننا محظوظون، نحن، من عشنا عصر نديم محمد أو بعضه، أدباء ومهتمين؛ لأن صروف الحياة في رَجُلِها المبدع، لم تقف عند الحيثيات والسلوكات، ولم تتوقف عند محطات عديدة هامة تقاربت وتباعدت في تضاريس عمره، وفرص سنحت وفاتت، أو ضُيِّعت؛ وآمال استطالت وخابت؛ بل إن نديم محمد كان مبدعاً عظيماً، ترجم المسارات الحادة ومفاصلها العصية شعراً خالداً وأدباً رفيعاً..
فاللغة العربية التي تبدو متاحة لمن يرضى بما اندرى على السطوح، أو نتأ عبر التعرجات، استحالت لدى نديم مغارة كنوز فتحت له بواباتها ومفازاتها السحرية، كأنما لديه كلمة السر، فأظهرت حليها ومفاتنها على يديه؛ فالمبدع الموهوب، هو الذي يجوهر المادة القيّمة باستخراج مكنوناتها وإبراز مقدراتها، حين يعالجها في مختبره النفسي والمعرفي والفلسفي.. فتتحول مرايا عاكسة لمختلف الأركان التي لم تكن منظورة كما يجب، والأعماق التي تفور، فتشع فيها العواطف والمشاعر والأحاسيس بأشكال وأساليب ليست معروفة أو مألوفة، وتغدو الكلمات باشتقاقاتها الجديدة، واستخداماتها المستجدة، لآلئ شاسعة الأمداء مديدة الألق في معارج الحياة ومدارج العاطفة؛ فحوّم بها عبر بساط ريح طواف ، بمساعدة خيال خلاق جواب، حلّق به ومعه في آفاق ومدارات، وغاص إلى عناصر ومكوّنات؛ واءم وتناغم، شكّل وعقد وتوسّم،
فغدت الموضوعات العادية قضايا متجددة، والأفكار المطروقة احتراقات وانطلاقات، والمناسبات الباردة اهتمامات وانشغالات محفزة، والمراكب المركونة على الشواطئ المنسيّة مواكب للباحثين عن الحضور المجدي والارتحال الفعال؛ فمن الطبيعة وإشراقاتها وغضبها وتحولاتها المضبوطة وغير المنضبطة، إلى المواقف السياسية والاجتماعية، والرفاق الذين يحيون ويمضون، بكل ما للرحيل الأبدي، كما الحضور العابر، من آثار وما يخلفه من صدوع وتبعات..
وإذا كانت الآلام الداخلية النفسية أو الجسدية، تلك التي تناهبته في مختلف مراحل حياته، قد جعلت منه مجمرة حائرة بين احتراق مؤذٍ وابتراد لا يقلّ أذى؛ إضافة إلى المواجع الخارجية، تغذّيها أحداث داهمة وخيبات قائمة؛ فإنه لم يستسلم، واستطاع أن يتحول إلى مبخرة، تبثّ الروائح التي لا تترك الواقدين في منأى عن روائحها، ولا الآخرين يستمتعون بالفرجة أو التشفّي، ولكل حسب نواياه، ومزاياه، وربما عطاياه!
وكما كانت للشاعر أحلامه وطموحاته التي حملته إلى بلاد أخرى وعباد آخرين، وإن لم تكن أسفاره عامرة بما أراد، أو لم تعمّر كما كان مأمولاً، فإنه لم يترفّع عن متع الحياة، ولم يخجل من رغباته ونزواته، كما كانت له مشاكساته التي تحولت مغامرات إبداعية ماتعة أيضاً!
وفي الزمن الصعب يظهر الربان الذي يرفع مراسيه أو يلقيها، وفق منظومات تخصه، بعد أن تكون قد عرضت أخبار المغامرين، وتنبؤات المناخ، كذلك يترك بصماتِه المميَّزُ، ويخلّد إيقاعَهُ العازفُ الفريد..
ويمكن القول لو لم يكون في الحياة، حياتنا على الأقل، مبدع اسمه نديم محمد، لكان إحساس بالنقص والخسارة، ولكان في أمانينا وجوده!
***
غسان كامل ونوس