الفئة: شهادات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

الحياة الخالدة

حين عاد أحمد عبد الجواد إلى بيته غاصاً بالحزن والمرارة على إصابة ولده في المظاهرات، كان ابنه الآخر الفتي كمال يردد: “زوروني كل سنة مرة”!
جاء ذلك في ختام الرواية الأولى من الثلاثية الشهيرة للأديب العربي الكبير نجيب محفوظ: بين القصرين- قصر الشوق- السكرية
كلما استمعت إلى تلك الأغنية الشهيرة، عاد إلي ذلك الإحساس الذي تملكني فترة من الزمن، بعد الانتهاء من تلك الرواية.. فليس أحمد عبد الجواد بالشخص الذي يسهل تأثره بالأحداث، لكن الأحداث لم تتركه، ولم يكن ممكناً بقاؤه خارج تردداتها، ولاسيما إذا كانت هامة ومصيرية كثورة 1919 في مصر.
لم أكن أفكر حين قرأتها أول مرة، وكنت فتياً، في أن الروائي المبدع نجيب محفوظ يقصد من ثلاثيته تلك مواكبة الطبقة الوسطى ورصد مشاركتها في تشكيل وصناعة التاريخ في مصر، واستطراداً في دول عربية أخرى؛ أليس في قريتنا المركونة بعيداً عن المدنية، المتعلقة بتعرجات السفوح، أكثر من أحمد عبد الجواد، رغم أنها لا تعرف الفروق الطبقية؟! إنه كائن إنساني رغم سطوته وجبروته وعلاقاته الواسعة المشرعة وغير المشروعة.. تلك هي العلامة الهامة الأخرى التي يمكن أن تلاحظ على شخوص الأعمال الأدبية التي كتبها الأديب الذي رحل عن عمر توقف عند الخامسة والتسعين، والتي قاربت الخمسين بين الرواية والقصة القصيرة والنصوص الأخرى..
اهتم محفوظ بالانسان ابن المجتمع والبيئة والثقافة، المهموم بالبحث عن كيانه عبر العمل والحب والرغبات والنزوات والمشاعر والعلاقات.. وفق مستويات تنسجم مع تفكيره وقدراته ومجالات تحركه.. وكان مسكوناً بمشروعه الفكري الاجتماعي السياسي الإنساني، وجدياً في متابعته، وغزيراً في نتاجه، ومثابراً في السعي إلى أشكال من الفن تؤمن طرح مقولاته وأفكاره باقتدار، فأسس وطوّر ونوّع.. وأغنى المشهد الثقافي العربي والعالمي، وترك بصماته المميزة التي ستبقى مضيئة في التاريخ الإنساني دالّة على إمكانية عربية معاصرة للمشاركة في صنع هذا التاريخ الذي كان للحضارة العربية بمختلف فروعها وتجلياتها حضور فاعل فيه منذ زمن طويل.
كان لنتاج الأديب العربي البارز نجيب محفوظ دور كبير في حياتنا الاجتماعية والثقافية، حيث تنتقل نصوصه الروائية والقصصية من يد إلى يد، ومن بيت إلى آخر، مترافقة بالتعليقات والانطباعات التي تعبر عن إعجاب واستثارة وانجذاب.. دون أن يكون قراؤه بالضرورة من أصحاب الشهادات أو الوظائف، وهذا يؤكد الانطباع الشائع نقدياً بأنه اهتم بالشعب وقضاياه، ناقلاً معاناته، حاملاً همومه، منتقداً أشكال التقصير والعجز واللامبالاة والفساد في مختلف المواقع الاجتماعية والسلطوية بأشكالها..
تعرفنا من خلال تلك النصوص إلى المدينة بأسواقها وشوارعها وأبنيتها وحاراتها، بمقاهيها ونزلها، بأناسها وعلاقاتهم وانشغالاتهم المتنوعة، وانعكاس الأحداث والوقائع على كل ذلك، ودورهم فيها.
كان في ذلك الغنى الذي ينبض في أدبه تعويض عن الشح الذي نعايشه، ولتلك الأحاسيس والرغبات والأفكار تردداتها في ذاكرتنا التي قد تجد فيها تبريراً لما يراودها، أو مشروعية في تناوله، أو تحفيزاً للمزيد من الانشغال والأسئلة التي لا تتوقف عند القريب والمألوف والممكن والمحلل!
كان لتلك الحياة التي تمور في إبداعاته عبر النماذج البشرية والشرائح الاجتماعية في القاهرة التي تتطور باطراد، وحاراتها الشهيرة بعراقتها وخصالها المميزة، والمدن المصرية الأخرى، وعلى ضفاف النيل الخالد، أصداؤها الثرة في إمكانية البحث عن حياة أفضل، في أمكنة أخرى، بالوسائل ذاتها أو بوسائل أخرى..
إنه واحد من الذين تتلمذت على إبداعهم، شغلني، و أثارني وأمتعني وحرضني؛ تشجعت على الكتابة بعدما قرأته وقرأت سواه من المبدعين، وخوّضت في هذا المضمار الشائق الشائك.. وياله من تخويض!
وعلى الرغم من ذلك، لم يكن باستطاعتي مصافحته وهو على مبعدة أمتار قليلة في فندق “سان ستيفانو” في الاسكندرية صيف عام 1990 احتجاجاً على مواقفه من “كامب ديفيد”، وكذلك فعل زملائي الفائزون بجوائز أدبية في القصة والشعر في مركز “رؤيا” الذي كان يشرف عليه الأديب المسرحي السيد حافظ والذي كان حاضراً.
إنها إحدى المفارقات الإشكالية في المسيرة المديدة الغنية للراحل المبدع، ومن المفارقات الأخرى، أنه توقف عن الكتابة تسع سنوات كاملة في الخمسينيات، بعد قيام ثورة تموز، لأنه لا يريد أن يكتب عن النظام الملكي بعد سقوطه، كتب خلالها- وبعدها- سيناريوهات عديدة لرواياته التي تحولت إلى السينما، ولم يتوقف عن الكتابة بعد محاولة اغتياله، وإصابته بالصمم في سنواته الأخيرة. ولم يغادر الأديب الراحل مصر إلا إلى الدار الآخرة، وهذه ميزة تستحق الاهتمام، حيث لم يركب المتون بحثاً عن تجارب ونماذج وأفكار؛ إنها موجودة في الأرض والإنسان حيث يعيش ويعايش ويحاور ويختلف ويتفق ويحب..
قال نجيب محفوظ الأديب العربي الكبير في أواخر حياته، ملخصاً تجربته:
عشت بالحب؛ أحب العمل والعالم.. وأحب الموت!
ولهذا كتبت له الحياة الخالدة..

غسان كامل ونوس

اترك رداً