الفئة: رؤية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: المعرفة ع 621 حزيران 2015
تاريخ النشر: 2015-06-01

ليس جديداً ولا نافلاً القول إنّ الثقافة هي الحصانة الحقيقيّة للكائن البشريّ، وهي الضامن الفعليّ لوطنيّته، والراصد الذاتيّ لقوامه ومتانته وبقائه قائماً بذاته، متكاملاً مع أبناء وطنه، متماسكين في كتلة قادرة على المقاومة، مهما كانت القوى الخارجيّة المعتدية، التي قد تختلف، وتتباين، وتتزامن، وتتناوب، وتتشارس، وتتلاين، وتتلوّن..
مثلاً؛ قد يكون الهجوم بسوائل تذيب الذرّات الهشّة في الكتلة؛ ما يمكن أن يسبّب فجوات، قد ينفذ منها الأعداء، أو تنهار الكتلة، وهذا ما يقاوَم عن طريق الإمكانيّة الذاتيّة للذرّات/ الكائنات.. وقد يكون الهجوم جارفاً، لا تفيد إمكانيّة الذرات وحدها، فتقاوم الكتلة المتماسكة ذلك.
الأبعاد الثقافيّة للأزمة في سوريّة:
لم يعد ممكناً إغفال الأبعاد الثقافيّة للأزمة في سوريّة: العدوان المتّصل منذ نحو أربع سنوات، بمدبّريه التاريخيّين، وعملائهم في المنطقة، ومخطّطاته المدروسة بإتقان، وعناصره المتعدّدة الموصوفة والمتجدّدة؛ محقّقاً اختراقات هامّة في الساحات المختلفة، مستغلاًّ ثغرات وهشاشة وقصوراً والتباساً وغفلة وإهمالاً واستهتاراً؛ ومواجهتُه المستمرّة بلا هوادة، برؤيا استراتيجيّة، ورؤى متفاوتة العمق والمرونة والجدوى، حسب المواقع والمهمّات والمسؤوليّات والأوقات.. مع محصّلة تقترب من المعجزة: صمود، وتجاوز للأصعب، واستمرار الدولة بمؤسّساتها الرئيسة؛ ولا سيّما الجيش العربي السوريّ البطل، وروافده من القوّات المسلّحة.. وقبل ذلك، ومعه، وبعده، الإحساس الرائع بالمسؤوليّة للشعب العربي السوريّ في مختلف الميادين، من دون أن نتغافل عن الخسائر الفاجعة في الأرواح والمواجع، والفواقد الكارثيّة في الموادّ والبناء..
هذا الصمود الذي يؤدّي، بلا أدنى ريب، إلى الانتصار القريب، الذي نستطيع تقرّي ملامحه من الأعداء قبل الحلفاء، يمثّل الحصانةَ، التي جُرِّبت بأقسى ما تكون الظروف حدّية، والمتنَ الذي يجب أن يُصان ويرمّم ويدعّم، وهو ما يجب أن يُبنى عليه.. وأساسه الثقافة الكامنة، وهو ما كان مستهدفاً عبر الحملات الإعلاميّة المبرمجة، والتحرّكات السياسيّة والاجتماعيّة والميدانيّة، وأبرز ملامحه:
-محاولات إثارة الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة، باستخدام الدّين، والمصطلحات المثيرة للغرائز والعصبيّات، والتركيز عليها في وسائل الإعلام المتعدّدة، واستغلال المناسبات الدينيّة، والمساجد، والصلوات الجامعة..
-العَلَم الذي اُتّخذ راية للعدوان المسلّح؛ علم الدولة السوريّة أيام الاستقلال، وهو علم الانتداب بنجماته الثلاث، التي ترمز إلى دويلات طائفيّة مزعومة، جرى رفضها.
-المسمّيات المتعدّدة للألوية والكتائب والسرايا المعتدّية على الأحياء والقرى والمدارس والمؤسّسات.. التي تستخدم أسماء الخلفاء والصحابة والقادة الإسلاميّين؛ إضافة إلى أسماء أخرى تاريخيّة ومعاصرة..
-استخدام آيات وأحاديث شريفة بمعان وتأويلات محرّفة، مع ما يكتنف بعضها من ضعف في المرجعيّة والوثوقيّة..
-استغلال الشعارات والعنوانات الفكريّة والحركات التاريخيّة..
-استهداف المراكز الثقافيّة والمراكز التعليميّة..
-استهداف الأعلام والرموز الثقافيّة التاريخيّة: قطع رأس تمثال أبي العلاء المعرّي في معرة النعمان، وتدمير تمثال الشاعر محمد الفراتي في دير الزور..
-استهداف القادة التاريخيّين والمعاصرين (الرموز الوطنيّة والقوميّة): الشيخ صالح العلي، القائد الخالد حافظ الأسد، الرئيس جمال عبد الناصر، السيد حسن نصرالله، القائد الخالد حافظ الأسد، السيّد الرئيس بشار الأسد..
-اغتيال العلماء والخبراء والفنّيين.. (عيسى عبّود أصغر عالم في العالم؛ اغتيل في محلّه في حمص يوم 18/4/2011م).
-الاعتماد على محدودي التعليم والثقافة في إثارة الفوضى، وتحريك الناس غرائزيّاً.
-تدمير المساجد والكنائس..
-تدمير بعض المقامات، ونبش قبور الأولياء..
-استخدام بعض المثقّفين، أو المحسوبين على الثقافة في الدعاية والتضليل..
ما من شكّ في أنّ التحضير للعدوان على سوريّة اعتمد على دراسات وبحوث، تتناول الواقع الجغرافيّ والديموغرافيّ بكلّ تفاصيله، ولعلّ في ملاحظة المناطق، التي بدأت فيها التحرّكات غير العفويّة، وتنقّلها بين الجنوب والساحل والوسط والشمال، والهتافات التي رافقتها منذ الأيام الأولى، ما يؤكّد التخطيط المحكّم، والإعداد المزمن لهذا العدوان.. ومن المفيد أن نذكر أن الولايات المتّحدة الأمريكيّة، قامت، لسنوات قبل العدوان، بتنظيم زيارات لمثقّفين سوريّين معروفين إليها مدداً كافية، في محاولة استمالتهم والتأثير عليهم..
ومن المهم أن نورد ما ذكره د.يحيى أبو زكريّا في موقع دام برس الالكترونيّ: “سوريّة في الذهنيّة الأمريكيّة، وليس من الآن؛ فقد قال “وليام كيسي” مدير الاستخبارات الأمريكيّة: “قررنا أن نشتري رسائل الدكتوراه التي أعدّها السوريّون في روسيا، فذهبت لأفاوض (غورباتشوف)، واشترطت عليه ألّا أخبره بما أريد، حتّى يوقّع العقد!”. وتابع كيسي أنّه عند تحليل هذه الرسائل على مدى سنوات، سيُفهم العقل السوريّ؛ إذاً كان المقصود من ذلك فهم كينونة صانع القرار السوريّ.
وقد جاء القرار إلى دوائر الهجرة الغربيّة بقبول أيّ سوريّ جاء طالباً اللجوء السيّاسي، وبذلك شكّلوا بيئة في الغرب مضادّة لسوريّة؛ وأمكن عن طريقهم جمع معلومات مهمّة عن البلد”.
*لماذا الحلّ الثقافيّ؟!
قيل كلام كثير، وأثيرت حوارات وجدالات حول أولويّة الحل العسكريّ (الذي يُشوَّه بوصفه بالأمنيّ)، أو السيّاسيّ (الذي يُشوَّه بتخصيصه بالتعامل مع ما يُسمَّون معارضة، أو يُتبَنَّون من قبل الدول الراعية للإرهاب المحرّضة على الديمقراطيّة، التي تريدها على مقاس غاياتها القاتمة..)، وجرى حديث مسؤول عن الحلّ الاجتماعيّ، ذكره السيد الرئيس للمرة الأولى في كلمته بتاريخ 6-1-2013م.
لكنّني أرى أنّ الحلّ الأكثر جدوى، هو الحلّ الثقافيّ:
-لأنّه الأبقى
لم يبدأ العامل الثقافيّ مع الأزمة؛ (وأيّ أزمة)؛ بل سبقها تحضيراً خارجيّاً وداخليّاً، وممارسةً على الأرض: برامج ونشاطات وملتقيات وإصدارات.. أو في الفضاء: خطاباً وإعلاماً ونتاجاً مسموعاً أو مرئيّاً، مباشراً أو غير مباشر.
ولا يتوقّف العامل الثقافيّ مع احتدام المواجهات؛ بل يكون له دور بالغ الأهمّيّة في القابليّة للتأثّر والتأثير، والتعامل الإيجابيّ المباشر مع التغيّرات الحاصلة على الأرض، ولا ينتهي حضوره مع توقّف الرصاص؛ بل يمتدّ فعله بعد ذلك ترميماً وتصويباً ومراجعة وتحصيناً، ومواجهة للمنعكسات السلبيّة، التي أثّرت في شرائح الناس المختلفة: مقيمين، أو نازحين، أو محزونين لخسارات في الأنفس والأموال والسنين المهدورة من أعمار محدودة..

-يحمّل المسؤوليةّ على الجميع
أثبتت الأحداث المؤلمة في سورية، أنّ الثقافة، لا تتوقّف على أصحاب الشهادات والمواهب والإصدارات والمعارض..، ولا على المؤسّسات الثقافيّة الرسميّة (وهي الأكبر)، والخاصة، بمسؤوليها وعناصرها وأدواتها وروّادها وآليات عملها؛ بل إنّ الشعب العاديّ المثقّف، هو الذي حمى البلد، ومؤسّساته الفاعلة: احتضن المؤسّسة العسكريّة: الجيش والقوات المسلّحة، وأفرادها يمثّلون الشعب كلّه، ولا سيّما الشرائح العاديّة محدودة الدخل والمنافع والخدمات والنفوذ، غير محدودي الضحايا والأحزان والصبر والإيمان.. وهذا لا يعفي الآخرين، ولا يقلّل من خسارات بعضهم.
فالالتحاق بالجيش وروافده، وتقبّل الشهادة والخسارات الأخرى، واستقبال المهجّرين داخل الوطن.. جزء مهمّ من الثقافة الحاضنة المماسِكة. ومن الضروري أن تستمرّ بمفهوماتها ومدلولاتها، وتعميمها عطاء وتلقيّاً.
ومن الضروريّ احترام الناس، وإشراكهم في التخطيط والاقتراحات والتحضير والتنفيذ، وفي هذا تحفيز على الإسهام الجدّي والمجدي في العمليّة الثقافيّة المتّصلة؛ أي الحلّ الثقافيّ، ومن الخطأ الكبير عدّهم متلقّين سلبيّين، عليهم الاستماع والطاعة، حتى بلا مناقشة أو حوار، والتعامل معهم بأنّهم أقلّ مستوى أو فهماً أمام النخب الثقافيّة والسياسيّة، التي سُلّمت مقادير المسؤوليّة من دون معايير حقيقيّة للكفاءة والاستحقاق؛ مما يبعث النفور لدى هذه الشرائح الواسعة من المواطنين، الذين ينفضّون عن النشاطات واللقاءات، أو يحضرون قلّة وبلا قابليّة، حين ندعوهم إلينا، أو نستدعيهم لنمنّ عليهم بكنوزنا، ولا نتواضع فنذهب إليهم، ونقول مواساةً أو مداراةً أو تغافلاً أو مكابرة: إنّ الكرام قليل! وتكون النتيجة حين نبحث عنها الخواء واللاجدوى و..الكارثة.

-إمكانيّاته متوافرة
هي ما لدى أيّ شخص من طاقات وخبرات ومعلومات ومواهب، يمكن أن يقدّمها إلى الآخرين، ويرغب بذلك. وهذا الموضوع متّسع ومغتنٍ وغير محدود، وليس من السهل إحصاؤه، وليس مطلوباً ذلك؛ يمكن تقويم الإمكانيّات بآليّات يُتّفق عليها؛ كما يتمّ البحث للوقوف على كيفيّة الاستفادة من أكبر قدر من القدرات في المجالات المتنوّعة.
-يمكن للجميع الإسهام فيه
لا تقتصر المشاركة في هذه المبادرة على من هم معروفون كتّاباً أو فنانين أو مفكّرين؛ بل يستطيع من يشاء ويرغب، أن يتقدّم من نفسه، ويعرض ما لديه، ليتعرّف إليه الناس، ويطّلعوا على إمكانيّاته، ومدى الاستفادة منها. كما يمكن أن يتمّ ذلك في أيّ موقع، في المدن والقرى والتجمّعات الدائمة أو الموسميّة..

-ليس مُلكاً لأحد
لا يستطيع أحد أن يدّعي أنه يمتلك الحقّ الشرعيّ أو الرسميّ في الهيمنة على هذا المشروع، أو التحكّم بمساراته، والمدعويّن للإسهام فيه، وبالتالي لا يُنتظر أن تُحقّق مكاسب شخصيّة، تحيلنا إلى غسيل الأموال الثقافيّ، أو الانتفاع الدعائيّ الانتخابيّ، أو التسلّق من خلاله إلى المواقع والمناصب المختلفة.
-يشجّع المبادرات
يحتفي هذا الحلّ بجميع المبادرات، التي من شأنها تحقيق أهدافه، ويحفّز على ذلك. ولا يجوز الوقوف في وجه أيّ راغب بالإسهام في هذا المشروع؛ بل لا بدّ من أن يبادر الناس أصحاب الرؤى والهاجس والحماسة والإمكانيّة إلى تقديم ما لديهم؛ إذ إنّ ما ينقصنا كثيراً المبادرة إلى فعل أمر غير مسبوق، أو غير مبرمج أو مخطّط ورقيّاً أو آليّاً تقليديّاً.
-يقوي الحصانة الذاتيّة والمجتمعيّة
لا شكّ في أنّ الحلّ الثقافيّ، يسهم في تجميع إراديّ للإمكانيّات، التي تتكامل في رفد الذات الشخصيّة، ما يجعل شرائح أوسع تهتمّ، وتلتقي، وتتقوّى، وتتقاوى، بما يؤدّي إلى حصانة أكبر للفرد والمجتمع.
-هناك سبب آخر، وربّما كان الأهمّ، وهو قصور المؤسّسات الثقافيّة القائمة عن إنجاز ما هو مطلوب، وعجزها، بحكم طبيعة عملها الرسمي، وآليّة التخطيط والتحرّك، وأكثريّة القائمين عليها من المعيّنين بلا أسس ثقافيّة، أو المنتخَبين بلا كبير إحساس بالمسؤوليّة، وعجز غالبيّة المثقّفين عن التحلّي بما يتطلّبه العمل الثقافيّ من تضحية وإقدام، وطبيعة تحرّكهم الفردي-إن وجد- خارج المؤسّسات الرسميّة، ومشاركة المجتمع سلبياتِه، بدل الصمود في وجه تأثيراتها، ومواجهتها، مع ما يتطلّبه ذلك من وضوح وشفافيّة ومسؤوليّة، تُطلب من المثقّفين أكثر من سواهم؛ وقد تبدّى هذا العجز الرسميّ والقصور الشخصيّ في هذه الأزمة الكارثيّة؛ فلم تتبدَّ جبهة ثقافيّة متماسكة مقنعة، أو مجموعات ثقافيّة متواصلة، أو مبادِرة في أبسط المشاهد والظواهر، حتّى في المناطق التي لا تشهد مخاطر أمنية، فيما وجدنا مثل هذه المبادرات لدى شرائح أخرى: الجيش الالكترونيّ مثلاً، بصمة شباب سوريّة…
-الحلّ الثقافيّ هو الحلّ النظيف
ليس من خاسر في هذا الحلّ/المشروع/المبادرة؛ الجميع رابحون: الواهب والمتلقّي والمساعد في ذلك؛ بل إنّه يشجّع الناس بمختلف شرائحهم على الانشغال بالثقافة، وهذا ربح أكيد؛ ناهيك عن الاشتغال بها. وليست لديه تأثيرات جانبيّة سلبيّة، ولا يخلّف بقايا أو حطاماً سوى الأمراض الاجتماعيّة والنفسيّة، والجهل، والتخلّف.. التي تتساقط بلا أسف، ولا تحتاج إلى من يدفنها!

*ما هو الحل الثقافي؟!
يمكن تلخيصه كما يلي:
اكتناز- تفاعل- حيويّة- حلّ
وبالاستفادة من الهندسة المائيّة، يمكن تمثيل ذلك بـ:
حوض صباب= هطل مياه جوفية روافد جريان.. يؤدي إلى توافر المياه، التي منها كلّ شيء حيّ!
كلّما اتّسعت مساحة الحوض الصباب، ازدادت إمكانيّة الحصول على الموارد، التي تمتصّها الأرض حتّى تُشبَع، وبعدئذ تبدأ بإطلاقها أو إخراجها على شكل جريان حرّ من الينابيع، وتتعدّد الروافد، التي يمكن أن نستفيد منها، أو تذهب هباء.. وتمكن أكثر الاستفادة من المياه الجوفيّة عبر البحث أو السبر للوصول إلى ما تعذّر خروجه؛ لأسباب تتعلّق بطبقات الأرض، وطبيعة الطبقات الحاملة، والمسارب التي يمكن أن تكون متعثّرة؛ فنساعد على إيصال المياه إلى سطح الأرض، ومن ثمّ يجري العمل على الاستفادة منها، أو تضيع الإمكانيّات مرّة بعد مرّة..
من الواضح أننا مثّلنا الثقافة أو القدرات الثقافيّة بالمياه، وبالتالي تكون البيئة هي الحوض الصباب، والهطل هو ما يمكن أن يُضخّ فيه أو يزوّد بمعلومات وخبرات وشهادات وعلوم ومعارف، مع الإشارة إلى الانفتاح على البيئات الأخرى القريبة منها والبعيدة.. ويمكن استكمال التمثيل حول الطاقات الكامنة، والطبقات، والينابيع والروافد.. بما لا يخفى.
عناصر الحلّ الثقافي:
-الكوادر البشرية… كرة الثلج تتزايد
الأدباء والفنانون والمفكّرون والمثقّفون الآخرون المعروفون المنتسبون إلى اتّحاد الكتّاب العرب، ونقابة الفنانين، ونقابة الفنون الجميلة وسواها، والعاملون فيها من المهتمّين بالشأن الثقافيّ، ومن هم خارج النقابات والمؤسّسات؛ لم ينتسبوا بعد، أو لا يريدون الانتساب..
هناك كثيرون من أصحاب الإمكانيّات الثقافيّة، ويرغبون في الإسهام بأيّ عمل ثقافيّ، وقد لا يتبيّنون الطريقة المناسبة، وقد لا يجدون من يدعوهم، أو يرحّب بهم، أو يستمع إليهم، أو يعطيهم فرصة للتعبير عن رغباتهم وقدراتهم؛ وقد تنقصهم المبادرة، أو الجرأة، وينتظرون من يحفّزهم؛ لا شكّ في أنّ هناك مستويات متفاوتة؛ لكنّ الاستفادة من الجميع ضروريّة، وفي مواقع وسبل وأعمال مناسبة لكلّ منهم، مع السعي إلى ما يؤدّي إلى تطوير تلك المستويات، وهناك مهتمّون بالشأن الثقافيّ، ويمكن أن يسهموا في هذا المجال بإمكانيّاتهم غير الثقافيّة؛ إضافة إلى المهتمّين بالشأن الوطنيّ العام، ويرغبون في تأمين دعائم ومقويّات في أيّ ميدان، ويمكن أن يجدوا في هذا النشاط ما يفيد ويُغني..
باختصار؛ إنهم: االمنتجون في الميادين والمسارات المتعدّدة للثقافة، وأصحاب المواهب، وأصحاب الخبرة، وأصحاب الإمكانيّة، والمهتمّون؛ أي الفاعلون، والمشاركون، والمتفاعلون..

-الأدوات: النتاج الأدبيّ والفكريّ والفنّي.. يمكن عرضه، وبيعه، والتبرع بثمنه أو استثماره بما يفيد هذا المشروع، أو أيّ مشاريع وطنيّة أخرى.
ويمكن أن يتمّ التبرّع بالكتب أو اللوحات، ممّن لديهم مكتبات شخصيّة أو تجاريّة، أو لديهم نسخ متعدّدة من كتب، أو لوحات، ويمكن أن يقدّموها بالطريقة المناسبة..
-الكتب: الدعوة إلى حملة للاهتمام بالكتاب، والاستعارة من المكتبات العامة، وقراءة الكتب عرضاً ودراسة نقديّة، وإقامة معارض كتب شبه مجانيّة؛ إضافة إلى التبرّع بالكتب والمجلّات والصحف الثقافيّة..
-منشورات وصور وإعلانات ودعوات..
-النشاطات في المراكز الرسميّة والمواقع غير الرسميّة؛ ولا سيّما في التجمّعات المهنيّة أو السكنيّة الدائمة أو الطارئة، والوصول الفعّال إلى القرى والأرياف مهما تباعدت؛ مع التشجيع على الحوارات، التي لا بدّ منها، والندوات والملتقيات، التي تطرح فيها أفكار ورؤى متعدّدة، يكون للمتلقّين دور مهمّ في سياقاتها ومتونها.
وفي الطريق إلى إقامة المكتبات العامّة في كلّ قرية وحيّ وتجمّع عمّالي وسكنيّ، لا بدّ من الاستفادة من الإمكانيّات الرسميّة المتمثّلة بالمراكز الثقافيّة ومكتباتها، ومنابرها، وقاعاتها، والمقرّات الحزبيّة، والمدارس، والمواقع الرسميّة الأخرى؛ إضافة إلى مواقع أخرى وإمكانيات أخرى.. لكن بآليّة مختلفة، وسبل أكثر حيويّة وتفاعلاً..
إنّ من الأهمّيّة القصوى أن تتغيّر العقليّة، التي تسهم في هذا الحلّ؛ إشرافاً وتنفيذاً، وأن تنفتح وتتعامل بأريحيّة وثقة، وتستخدم أساليب متجدّدة، للوصول إلى الأفضل باستمرار.
ولا أعتقد أنّ أحداً يشكّك في أنّه كلّما زاد الحوض الصبّاب لأيّ مجرى مائيّ، ازداد الرصيد المخزون والمكشوف لهذا المجرى، وبالتالي، تزايد المشتغلون بالثقافة، المنشغلون بها، في هذا الحيّز الجغرافيّ أو ذاك، وهذه البيئة المحدّدة أـو تلك المفتوحة، وتضاعف الإحساس بالمسؤوليّة، والانتماء والحرص على المصير الجمعيّ، واحترام القوانين وتطويرها، وازداد الرصيد المعرفيّ للناس، وارتفعت احتمالات تشكيل الوعي الإنسانيّ، وتعالى المستوى المعنويّ للحياة المعيشة، واختلفت النظرة إلى الكثير من الأشياء؛ وجوهرها أهّميّة المشاركة الفاعلة والوجدانيّة في تطوير الواقع، وإغنائه، وارتقائه، وأفراح الناس وأتراحهم..
ومن الطبيعي أن تختلف الطبيعة الأرضيّة والسكّانيّة في أركان الحيّز أو مَدَياتِه، فيختلف العطاء، وتتفاوت الاستجابة؛ كما قد تختلف الغزارات الهاطلة في جنبات الحوض الصبّاب، وتختلف درجات النفاذيّة والجريان والتجمّع المكشوف أو الجوفيّ.. ولا بدّ من معاينة هذا الاختلاف وهذه الفروقات، والسعي للتعويض، والاستزادة، وسدّ الثغرات، والحفظ المناسب للمياه المهدورة..
*كيف؟!
هو السؤال الأصعب في هذه المبادرة؛ فالإجابة عليه تقتضي الرؤية المتبصّرة لمفاصل المبادرة، وتفاصيلها، وعناصرها، وآليّات سيرورتها، وهذا ما لا أزعم أنّه بيّن جليّ؛ بل يتطلب المشاركة من الذين يستطيعون تقديم ما يفيد في ذلك؛ وهذا جزء من أسباب طرح هذه المبادرة.
ولا بدّ من التأكيد أن التحرّك الشامل والمدروس للمضيّ في هذا الحلّ، يفترض أن يتسارع، من دون أن ننسى أنّه مشروع حياة ومصير، وهو ليس طارئاً أو عارضاً أو راهناً؛ بل يبدأ، أو بدأ في الماضي البعيد والقريب، ويستمرّ إلى ما لا نهاية؛ لأنّ هدفه مستمرّ في التقدم أمام الخطا، مهما تعجّلت، والغاية أنصع وأجلّ، مهما بلغ الإنجاز، وهو متصل مهما تقطّعت السبل، وتعكّرت المفازات، ولن يضعف بالتقادم، أو يهِن أو يهرم، مهما تقدّمت السنون..
ولعلّ في التفكير في الإجابة عن السؤال (كيف؟!) إسهاماً في المبادرة..
إنّ المطلوب أن يعمل الجميع في الوطن من أجل الجميع في الوطن، وبالتالي العالم؛ لأنّ خير الوطن يعمّ على الناس في القريب والبعيد؛ ولا سيما بعد الإنجازات الهائلة في الاتّصالات؛ إنّ هذا الخير العميم، يمكن أن يتحقّق بالثقافة وفي الثقافة، ومن الصعب؛ بل من المستحيل تحقيقه في أيّ قطاع آخر؛ فليس ممكناً أن يحمل الجميع السلاح، ولا أن يعمل الجميع في الزراعة، أو الصناعة، أو التعليم، أو البناء.. ويمكن لجميع العاملين في هذه القطاعات كافة، أن ينمّوا معارفهم وأذواقهم واطّلاعاتهم وقراءاتهم ومواهبهم..
إنّ الثقافة مهمّة وضروريّة لكلّ فرد، وليس من مصلحة أحد أن تسقط أهميّتها لديه؛ فهو يحكم على نفسه بالسُّبات والموات.
لذلك هناك أشكال متنوّعة ومتعدّدة حسب الشريحة والموقع والظروف والشروط الموجودة، التي من المفترض تحسينها وتجويدها.
من هذه الأشكال ما هو معروف رسميّاً وخاصّاً، ومنها ما يُفترض أن يُختلق أو يُكتشف، وينمّى، وهو عمل حيويّ يحدث في أثناء المسير، من دون الاضطرار إلى التوقّف..
ولا شكّ في أنّه يكون أكثر تركيزاً في أماكن ومجالات، كقطاع التعليم في مختلف مراحله؛ مثلاً، ويُفترض أن يكون أكثر اتثاراً واستثماراً في جيل الشباب.
إنّ العامل المثقّف يتعامل مع الآلة أو أيّ أداة أخرى، بشكل أكثر تفتّحاً واستيعاباً، والفلاح المثقّف يفهم المطلوب من أجل زراعاته ودوراتها أكثر من سواه، والجنديّ المثقّف يكون أكثر حرصاً على سلاحه وأسراره وزملائه، والمعلّم المثقّف يترك لدى طلّابه آثاراً لا تنسى، وقد يزرع فيهم حبّ المطالعة، ويحثّهم على إظهار مواهبهم وإمكانيّاتهم الحقيقيّة؛ أما الواقف على الحاجز، فتظهر ثقافته من خلال تعامله مع العابرين ملامحَ وألفاظاً ونبرات.. ناهيك عن الطبيب المثقّف، والمهندس المثقّف، والتاجر المثقّف، والموظّف المثقّف، والسياسيّ المثقّف الذي يستطيع أن يُقنع إذا ما اقتنع!
ولا بدّ من تأكيد أهمّيّة تبنّي هذا الحلّ فرديّاً وجماعيّاً، ومن قبل الجهات العامّة والخاصّة، والترويج له إعلاميّاً، وبشكل واسع ومركّز ومتواصل، وبأساليب حضاريّة سلسة محبّبة..

*متى؟!
متى نبدأ؟!
لقد بدأنا..
-نحن لا نبدأ من الصفر، ولا نتحرّك في فراغ..
هناك بنية ثقافيّة تحتيّة منجزة خلال عقود؛ سواء عن طريق مؤسّسات ثقافيّة ونقابات ومنشآت ثقافيّة.. أو عن طريق وزارات وإدارات محليّة، وهي تعمل بهذا القدر أو ذاك؛ الأهمّ من كلّ ذلك أنّ لدى الشعب السوريّ عراقة في التاريخ والمشاركة في إنجاز الحضارة، والإنتاج الثقافيّ، وهذا ما أدّى إلى أن استطعنا الصمود والمواجهة، والاقتراب من الخلاص..
ويمكن استعراض بعض الظواهر الواقعيّة، التي تؤكّد متانة قوام الشخصيّة السوريّة:
-استقبال الشهداء باعتزاز وإحساس بالكرامة والإباء؛ لأنّهم يدافعون عن الوطن في جميع أركانه، ولعلّ وجود أكثر من شهيد في عدد من العائلات، يؤكّد هذا الرصيد..
-الحالة بين المقيمين والضيوف المهجّرين نتيجةٌ مهمّة، رصيد مهمّ.
-ثبات الجيش والشعب ضدّ الفتنة والانقسام.
-التقشّر (الانشقاق) القليل.
-التحوّل في المزاج العامّ لدى العديد من البيئات.
-انطلاق المصالحات واستمرارها.
يمكن أن نبدأ من خلال بعض الإجراءات الرسميّة:
-تفعيل النشاطات الثقافيّة الجدّيّة، التي لا تكون استعراضيّة وإعلاميّة وآليّة.
– تحريك الأرصدة الثقافيّة الرسميّة؛ سواء ما كان منها لدى المؤسّسات الثقافيّة، أو القطّاعات الأخرى، التي يوجد فيها رصيد للثقافة؛ ولا سيّما المدن والبلدان والبلديّات..
-إعادة النظر في الإدارات الثقافيّة، على أن يتمّ الاقتراح والتعيين وفق معايير تنطلق من الثقافة، وتنتهي بها، كالهاجس والمتابعة والمشاركة والممارسة والحيويّة، والمرونة الفكريّة، والقدرة على الاستيعاب والحوار، وتقبّل الرأي الآخر، والاهتمام بالمصلحة العامة..
-الاستفادة من الإمكانيّات الخاصّة في الجانب الثقافيّ بصورة مجدية، بشرط عدم استغلال ذلك في غسيل أموال أو استمرار نفوذ شاذّ، أو ظهور إعلاميّ تسويقيّ، أو لأسباب انتخابيّة..
ولا بدّ من تأكيد الأمور التالية:
-الحلّ الثقافي ليس بديلاً عن الحلول الأخرى؛ بل هو رصيد مساعد لها جميعاً. وبالتالي لا بدّ من استمرار القوّات المسلّحة في مواجهتها للإرهاب، حتّى القضاء عليه، مع مواصلة الحلّ الاجتماعي المتمثّل بالمصالحات، التي تتطوّر في كثير من المناطق السوريّة؛ إضافة إلى ضرورة المضيّ في الحلّ السياسيّ، بمشاركة أوسع لمختلف التيّارات الوطنيّة والأحزاب والشرائح والفعاليّات في العمليّة السياسيّة، وإدارة شؤون البلاد، ولا سيّما بعد إنجاز الاستحقاق الوطنيّ البالغ الأهمّيّة: انتخاب السيّد الرئيس بشار الأسد لولاية جديدة، مع ضرورة مشاركة المثقّفين بصورة أوضح في المرحلة القادمة.
-إنّ الثقافة فرض عين على كلّ مواطن؛ فأرجو من خلال هذه المبادرة، أن يفكّر كلّ منّا في ما يستطيع تقديمه؛ ابتداء من أسرته وحيّه أو قريته أو دائرته.. وصولاً إلى أبعد مدى..
ويمكن أن تتقدّم الاقتراحات والآراء مباشرة، أو عبر مواقع التواصل الاجتماعيّ، مع اقتراح الآليّة والفعاليّة..
-ليست المبادرة الثقافيّة تنظيماً حزبيّاً، ولا تيّاراً سياسيّاً، ولا تحرّكاً فوضويّاً، وليست بديلاً عن جهة أو أحد؛ بل هي رغبة ثقافيّة وطنيّة خالصة لعيون أبناء الوطن، ووفاء لشهدائه، ودعماً معنويّاً للجرحى والمصابين والمحتاجين..
يمكن أن نبدأ بأضعف الإيمان: من النفس الأمّارة بالأحاديث السلبيّة وتعميم الممارسات الشاذّة، وتعويم السطحيّين والفارغين والمدّعين؛ لنتخلّص من هذا، ولنقمْ بتصحيح بعض المصطلحات، ورفض استخدام العبارات الفتنوية، حتّى في إطار مواجهتها، وتكريس الممارسات الحيويّة المنتجة، وتعميم الحالات الإيجابيّة؛ ولا سيّما البطولات الأسطوريّة للجيش العربي السوريّ وروافده، والمبادرات الإيجابيّة المتنوّعة في أيّ مكان من بلدنا الغالي سورية.
***

اترك رداً