الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2013-09-17

حين يتعرض الكائن الحي لمشكلة -وهو سيتعرّض حتماً ما بقي حياً- ستبحث مَلَكاتُه عن حلّ أو حلول مستخدمة بقواها الذاتية وطاقاتها الكامنة والمعلَنَة، ومستعينة بخبراتها المزمنة، ما وراء الشعور وفي رصيد الوعي..

ويستدعي ذلك استنفاراً يتناسب مع الحالة والإمكانيات وسرعة التنبّه والاستجابة.. وسيبدأ هذا كلّه بحلّ إسعافي؛ فيمكن أن يكون الأمر لايَحتمِل أيَّ تأخير يؤدي إلى استفحاله وخسارةٍ لا تعوض، والحلّ الإسعافي يبادر إليه الكائن بالفعل الانعكاسي قبل أن يتدخّل الوعي وفعالياته للقيام بالإجراءات الضرورية العمليّة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.. وهذا يحتاج إلى الوعي العام أيضاً،هذا الذي تتشارك فيه وتتداخل كائنات أخرى، وقد يُضطرّ الحلّ الإسعافي إلى بتر أعضاء أو زرع أخرى. ويختلف زمنه ومدى تأثيره حسب عوامل تتعلّق بالكائن نفسه، ودرجة الإصابة، والمكان، والزمان، والمجتمع وإمكانياته، ومستوى الوعي العام، والعناصر الفاعلة إدراكاً ومبادرات وقرارات، واستجابات العوامل هذه ذاتها، وعوامل أخرى ربما تؤثّر فيما يتزامن ويُستكمَل من حلول أخرى ضروريّة أيضاً.. يتعلّق بعضها بقدرة الكائن نفسه على تجاوز الحالة، والاستفادة منها لعدم تكرارها، والتكيّف مع الواقع الجديد الذي قد يكون قد فَقد فيه عضواً أو أكثر، وتعرّض للخلل أو للشلل عنصر أو أكثر، وتعكّرتْ ساحة الرؤيا، وتضيَّقَ حيّز التعرّف والتصرّف، فيما هو غير منظور أو ملموس..‏

هناك حلّ في مسائل الرياضيات يعرف بالحلّ التافه؛ أي صفر يساوي صفراً، ويمكن أن يُترجَمَ بما يُتهكّمُ به: العملية نجحت لكن المريض مات! وهذا ليس حلاً؛ فحين ينهار كل شيء، لم يعد من جدوى؛ ولا شكّ في أنّ من الحكمة والحيوية والإيجابية والواجب السعي إلى عدم الوصول إلى ذلك، وخارج هذا التصوّر الكارثي تبقى الحالات الأخرى كلّها قابلة للحلّ مع اختلاف النسبة والظروف.‏

وبعد فترة العلاج الدوائي أو الفيزيائي أو النفسي، تأتي فترة النقاهة.. من ثَمَّ التأهيل الحياتي والاجتماعي والوظيفي للعودة إلى ممارسة الحياة من جديد..‏

ومع التقدير للحلول الأخرى والاهتمام بها، فإنّ للحلّ الثقافي أبعاده التي لا تحدّد، وتأثيراته التي لاتحدّ، وحيويّته التي لا تتوقّف، ومتطلّباته التي لاتنتهي، وهي لا تبدأ مع وقوع المشكلة، ولاتنتهي بالشفاء التام؛ لأنّ هناك ظروفاً سبقت، وواكبت، وأسباباً سرّعت، وعناصر أثّرت وتأثرت، ووقائع وأحداثاً ومشاركين قريبين وبعيدين، وبشكل مباشر وغير مباشر..‏

وهناك أخطاء وممارسات كان لها تأثيرها قبل المعضلة، وفي أثناء العلاج الذي قد يطول زمنه، وهناك تبعات ومنعكسات على الكائن ومسار حياته القادم، وعلاقته مع الآخرين، وعلى الكائنات الأخرى في البيئة الضيّقة والأوسع، وعلى البيئة ذاتها والأحياز الأخرى اقتربت أو ابتعدت..‏

إن سائقاً غير مثقف، أو عامل مقسم، أو ممرضاً، أو واقفاً على حاجز، أو حارساً، أو عامل استعلامات، أو عامل نظافة.. يمكن لأيّ منهم أن يعيق عمليّة إنقاذ، أو يؤخّر الوصول، وبالتالي قد يضرّ بالكائن، إذا لم يؤدّ إلى فقدانه! ناهيك عن المسعِفِ المثقّف والطبيب المثقّف، والمعالج المثقّف.. أما السياسي المثقّف فخطابه مختلف، والآمر المثقّف أمره مختلف، وأسلوبه وإقناعه، والمأمور المثقّف فتلقّيه مختلف، واستيعابه أفضل، وتجاوبه، وتنفيذه..‏

إن تفاعل المصاب نفسه يختلف حين يكون مثقفاً؛ تقبُّلهُ للعلاج، وممارسته لما يجب خلال فترة النقاهة، وتسارعُ عودته إلى دوره وحضوره.. والانتكاسة أصعب من المرض؛ إذن المجتمع المثقّف، أقدر على منع المشكلة أو تفاديها أو تقليل الخسائر إلى الحدّ الأدنى بالحدّ من انتشارها عدوى أو فتنة أو تحريضاً وتهييجاً.‏

ومن النافل القول إنّ ذلك لا يتوقّف على المثقّفين المتخصصين في الثقافة وميادينها أو العاملين في مؤسساتها أو (القائمين عليها)؛بل من الضروري أن تكون مسؤولية هؤلاء أكبر، ودورهم أعظم..‏

ولن أدخل هنا في تحديد نوعيّة الثقافة المطلوبة أو الأكثر فائدة؛ لأنّني أرى أنّ للثقافة في ذاتها معنى إيجابياً إنسانيّاً حضارياً.. وبالتالي لا يكون للهزيمة ثقافة، ولا للاستسلام ولا للفوضى، ولا للفساد ثقافة، ولا للخيبة والانكسار والموات.. في حين إن هناك ثقافة التسامح والنجاح والتطور والمشاركة والحوار.‏

باختصار إنّها ثقافة الحياة الكريمة التي نحتاج إليها دائماً، وفي سورية الآن أكثر من أيّ وقت مضى

اترك رداً