لا تحتاج اللغة العربية إلى تعريف أو توصيف أو تقريظ، ولا إلى تأكيد أهميتها ماضياً وحفاظها على كنوز المعرفة والخبرة، وخلاصات التواصل بين الحضارات في مراحل التاريخ المتعاقبة، وحاضراً لمواكبة التطور العالمي في جميع المجالات، وربط العرب بهذا التطوير، وإعادة وصل ما انقطع، وتمتين الوشائج بين أبناء الأمة العربية.. وهي لا تحتاج إلى شعارات وبيانات تحضّ على الاهتمام بها، والتذكير بمناسبات جعلت العالم يعترف بأهميتها بها، ويعدها من بين اللغات الست الرسمية المعتمدة في الأمم المتحدة على أهمية ذلك…
لكن لغتنا العربية تحتاج إلى ممارسات وسلوكات وتطبيقات بين الناس في حيواتهم العادية، وفي المؤسسات الرسمية والخاصة، بناء على مناهج وخطط وجداول أعمال ومراحل تنفيذ في التربية والتعليم وأدبيات التعامل البيني، والحوارات، والإعلام بمنافذه المقروءة والمسموعة والمشاهَدة، والنشاطات الثقافية خاصة، والفعاليات الأخرى السياسية والاقتصادية والاجتماعية وسواها…
ولا شك في أن مسؤولية ذلك تقع بقدر أكبر على الدولة بأجهزتها وعناصرها المختلفة؛ لكنها تقع قبل ذلك وبعده وفي أثنائه علينا جميعاً مواطنين عاديين، وفي مختلف الميادين، ولا سيما نحن المثقفين العاملين في المؤسسات الثقافية أو الجهات التي تعنى بالثقافة والتعليم والإعلام، سواء أكان ذلك الحديث والكتابة والمناقشة، أو في الإبداع والنشر؛ حيث هناك ما يزال من يميل إلى التعامل باللهجات العامية التي تؤدي إلى تقزيم الشخصية الجامعة، وزيادة التشتت، وعدم التفاهم والتواصل بين أبناء البلد الواحد، ناهيك عن البلدان العربية الأخرى.
وإذا كانت اللغة من أهم معالم الشخصية، فإن ما تدعوك للدهشة حين تسافر في بعض المطارات العربية، ولا سيما تلك التي تتواجد في بلدان ثرية، كثافة اللغات الأخرى لدى العاملين في المطار، إلى درجة تكاد تختفي فيها اللغة العربية، ومعها الشخصية العربية والهوية العربية، وحين تدخل أسواق تلك البلدان، وتتعامل مع القائمين على محلاتها ومراكز تسويقها وفنادقها ومطاعمها، تزداد الغربة إلى درجة التساؤل عن كيفية التواصل مع هذه العمالة، وبأي لغة يجب أن تتحدث، وهل يُفترض أن تظهر لغتك الأخرى وتتقنها، لتحصل على ما تريد! وإلى أين تجري الأمور، وإلامَ تصل؟!
ولعل الدخول أكثر في أركان البيوت، ومن دون التعمق في أسرارها، يقودك إلى ما هو أفظع؛ فقد صارت مربية الأطفال العرب أجنبية، وهنا الطامّة الكبرى، فكيف سيتعلم الطفل لغته الأم؟! ومتى؟! إذا ما كنا نعلم أن ذلك يتم تَشَرُّبُهُ مع الحليب والأنفاس والمشاعر، وأن ذلك ما يسهم كثيراً في تكوين الشخصية، وتنميتها صلبة واثقة منتمية. وهناك الشغالون والطباخات، السائقون والمزينات، عمال الصيانة والنظافة والحدائق…
والأدهى من كل ذلك أن ساسة هذه البلدان يهيمنون على القرار العربي من خلال الجامعة العربية، ويتخذون قرارات، ويفرضون إجراءات ومقاطعات بحق أقطار عربية عريقة بعروبتها، متمسكة بها، مناضلة في سبيل إعلاء شأنها والحفاظ على كرامتها، كسورية مثلاً وقبلها العراق؛ أما الأنكى فهو تحالف هذه البلدان العربية مع الأعداء التاريخيين استعماراً واحتلالاً ونهباً وتتريكاً وفرنسةً وتهويداً للنيل من حضارتها واستقلالها، وتدمير بناها ومؤسساتها، ولا سيما التعليمية منها التي تحظى اللغة العربية فيها بأهمية كبيرة، ولعل سياسة تعريب المناهج الجامعية السورية ما تزال الرائدة في هذا المجال على الصعيد العربي.
*
وقد يكون أهم تمظهر للغة العربية متمثلاً في الإعلام الذي تكاتف حضوره وابتعدت مديات تأثيره، ويكاد يحاصر المرء من غرفة النوم والمطبخ إلى السيارة والشارع إلى الدائرة والمكتب والحانوت، وفي كل مكان وفي كل وقت، وقد يؤدي هذا التكاثر السرطاني إلى فقدان التركيز وتشويش العقل، وهذا جزء ـ ربماـ من غاية الهيجان الإعلامي، وفي حالات أخرى يكون من العسير التحكم بما تريد أن تسمع أو ترى أو تقرأ لضيق في الوقت، أو إلحاحٍ فجّ أو ترغيبٍ مستدرِج، وبالتالي يكون فرض ما يراد أن ينتشر أكثر يسراً، حتى لو كان فيه قدر مهم من التضليل والإفساد والتشويه، لأن ذلك غدا صناعة وسياسة وحرباً، كما يمارس على سورية منذ أكثر من اثنين وثلاثين شهراً.
ولعل من المؤسي والمخيّب أن يقوم الإعلام بترويج العامية على حساب الفصحى، بحجة الوصول إلى الشرائح غير المثقفة، متناسياً أن الثقافة ليست تعلماً أو شهادة فحسب، وأن من واجبنا أن نقدم للناس الدسم والغنى معنى أسلوباً، وأن ما يقدم إلى هؤلاء في غالبيته لا يزيد من ثقافتهم؛ بل فيه من السطحية والهشاشة الكثير؛ سواء أكان ذلك عبر برامج الحظ والطبخ والتسالي، أو من خلال برامج أخرى مطولة ومبهرجة، مع حوارات فنية واستعراضات ومسابقات مفرغة من مضمونها، وتعتمد على الاتصال المربح للجهة المنتجة، أو الإشغال الأكثر خسارة للناس في الوقت الذي استهلك من خلال المتابعة والتداول في شؤون هذا الذي يستغرق وقتاً يطول؛ وفوق كل هذا فإن ذلك يقدَّم باللهجات العامية الموغلة في خصوصيتها أحياناً!
وقد لجأت بعض المحطات (العربية) إلى تقديم تقاريرها الإخبارية وبرامجها في السياسة والاقتصاد والرياضة والفن باللهجات المحلية إمعاناً في أذية اللغة العربية والذاكرة العربية والشخصية العربية.
*
إن في حياتنا خسارات كثيرة يمكن أن تعوض، لكن الخسارة في مقومات الشخصية، التي تشكل اللغة أسّها، لا يمكن تعويضها؛ لأنها تُفقد الانتماء، وتُسهم في الضياع والتوهان…
وعلينا أن لا نضيع وقتاً أطول في كيل المدائح للغتنا العربية، وأن لا يقتصر اهتمامنا بها، أو تذكّرنا إياها في المناسبات التي تخصها فقط؛ فنكون بذلك قد زدنا من الخسائر التي لم تعد بسيطة وعارضة؛ بل إن الحال مصيرية بلا أدنى شك!!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي ع 1373
تاريخ النشر: 2013-12-22
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy/PublicFiles/pdf/alsboa/1373.pdf