الحاجز
الموقف الأدبيّ-
غسان كامل ونوس-
ها أنت تنتظر..
أحاسيسك متوفّزة، وأعصابك مشدودة؛
عيناك وأطرافك…
أفعالك الطبيعيّة والمنعكسة، مسؤول عنها القلق عينه، والمراقبة والحرص والتنبّه.. السهر، والسهد، والتعب البادي.
الفارق أنّك مسؤول عن أفعال آخرين. تصرّفاتهم ستنعكس عليك آنيّاً ولاحقاً.
هناك.. حيث كان يُفترض أن تكون؛
قد تتداخل الفصول في اليوم، أو في أيّام عدّة. وتشرق، وترتاح، وتعيش ربيعاً مطّرداً، ودفئاً ونضارة، وقد يكون خريف وشتاء. قد تسهر منشرحاً، وتنام حالماً، أو تساهر النجوم متسائلاً منداحاً مع آهات المطربات وشكوى المطربين، وكوابيس النوم لا ترحم، وبرد قارس، وتلبّد، ورعود..
وهنا.. حيث يجب أن تكون؛
تتوالى الفصول، وتأخذ كامل وقتها؛ فتبرد، ويشلّك الصقيع، من دون القدرة على التكوّر، أو التدفّؤ بما يكفي أو يرضي، بلا نوم أو راحة. وقد تُكوى من الحرّ، وتتناهبك الحشرات، من دون إمكانيّة التظلّل أو الابتراد؛ فمِن أين الماء، إذا ما كنت تشتهي أحياناً قطراتٍ للشراب، سوى من حافلة مضمونة؟! ولا يمكن أن تخلو إلى نفسك، ولا إلى غيرك من أهل وأقارب.. وأولاد. لا غرائز يمكن أن تلهيك، ولا شهوات، يمكن أن تصطلي في هذا الحذر والقدر.
هناك..
الازدحام يتكرّر في مناسبات وأوقات مقروءة ومعروفة، بعد انقضاء دوام المدرسة. لم تبتعد كثيراً. عدت من حيث انتهيت؛ تنتظرها، أو تنتظرهنّ غير بعيد عن سور المدرسة، وفي المعبر الإجباريّ.. تتربّص وتختار. لست هيّناً في الملاحقة، ولست ساذجاً في الانتقاء. وأمامك أسراب متنوّعة؛ هل هذا هو سبب الحيرة، التردّد، الغنج؟! لو كنت في قرية نائية، أو حارة متطرّفة، لكانت الحيرة أقلّ، والفرص كذلك؛ فالصيّادون كثر، ومنافسوك من عيار ثقيل؛ أساتذة برواتب، أو عسكريّون، أو أصحاب نجوم وشرائط. لم تكن تحبّهم، وتتمنّى أن يستنفروا، وتطول مدّة الجاهزيّة القصوى؛ ليوغلوا في البعد أكثر. ماذا تقول الآن، وقد بتّ منهم، مثلهم؟! هل تشفق عليهم؟! أمّا الأساتذة، فخصومتهم من نوع مختلف. مقيمون زمناً أطولَ؛ لهذا أحببتَ مهنتهم، وصرت مدرّساً، ولم تطلْ مدّة تربّصك؛ فلا مجال لوقوفك هناك بعدُ؛ حيث كنت تكمن عياناً، بعد التخرّج، وقبل التعيين. أسرعتَ إلى مبتغاك، عملك. اصطدتَها باكراً؛ أم هي من اصطادتك؟! لا فرق، ولا يهمّ. ولم يعد لديك وقت؛ فالدروس مطلوبة، والعلامات مطارِدة، والشهادات تنتظر، والمنافسة تشتدّ لأمر مختلف، في البيوت، لا على المفارق والطرقات!!
هنا..
لم تكن تظنّ أنّك ستعود إلى هذه المهنة، وترتدي هذه البذلة، وتقف هذه المواقف. في الخدمة الإلزاميّة، كان لمهنتك دور في الحفاظ على أوقاتك من اختلاف الطقوس، وتعدّد المدارات؛ فسيادته مهتمّ بأولاده، ومن سيجد أفضل من أستاذ متفرّغ، بلا أجر ولا منّة؛ بل هو الممنون من حمايةٍ من الوقوف على الحواجز، والمناورات، والتنقّلات…
كنت تخمّن أنّك لن تعود إلى هذه المنغّصات، أو الاحتمالات. لكنّ الأزمة طالت، ولم يمنع تقدّمك في السنّ من استدعائك. ولم تتهرّب؛ ولم تتكاسل أو تتبلّد؛ فلا مجال، ولا إمكانيّة، ولست خوّافاً. وصارت المراقبة هي الأساس، وبات التيقّظ والتحقّق كلّ شيء؛ بدلاً من أعمال امتحانيّة نهايات المواسم. اقرأ جيّداً، الأسماء والمناطق والمهن. انتبه جيّداً. لا تهرب بعينيك بعيداً، ولا تتجاهل ما يطلب منك. أوقاتك مفتوحة، والازدحام متّصل. سيّارات وآليّات من مختلف الأنواع. كنت تحضّر المبلغ، الذي ستقتني به آليّة؛ أيّة آليّة، وتحسب الزمن المجدي.. وكان يضحك عليك أولادك من جهلك بأنواعها، وعدم اهتمامك بها.
هل تقول لمن يأمر الآن: انتبه إلى سيّارة من نوع معيّن: لا أستطيع التمييز؟! هل ستطلب أوراق كلّ سيّارة؟! الأمر صعب ومرهق لك، ومتعب للسائقين، ومؤخِّر للركّاب. لكن ماذا بيدك؟! هذه هي الأوامر، والإخباريّات تتوالى. وويل لمن تنفجر سيّارة عابرة من بين يديه!! ويلٌ أكثر من نفسه اللوّامة؛ هذا إذا بقيت له نفس!!
ماذا لو انفجرت بك، بكم؟! عليك أن تحترس إذاً. أنت على الحاجز، الانضغاط على أشدّه من الخارج، والداخل. تتشدّدْ على العابرين، والعابرون يتأفّفون، ويتبرّمون، ويُزعجون. حتّى وهم ينصاعون، يقدّمون أوراقهم، وأنت تقرؤها؛ حتّى وهم ينزلون من السيّارات، بعد الطلب منهم التوقّف إلى اليمين لزيادة التفتيش. معهم حقّ، ومعكم حقّ؛ من الظالم؟! ومن المظلوم؟! كثيرون منهم معذورون، وغالبيّتهم أبرياء، وأنتم مضطرّون أن تكونوا على يقين؛ فكلّ منهم متّهم، حتّى يثبت العكس، وأنتم الخصم والحكم. من أجلهم؟! نعم. تقول ذلك؛ كنت تقول. بتّ لا تتفوّه بالكثير. هل تمرّر على مسؤوليّتك؟! يحدث هذا أحياناً، فيأتيك العقاب، حين ينكشف الأمر، حين ينزعج منك زميلك، فيَشي بك. لا يمكن أن يكون هذا الكهل مجرماً؛ تقول، لا يمكن أن تكون هذه الجميلة حاملة حزاماً ناسفاً؛ يمكن أن يكون في عينيها ما ينسف، لو كنت قادراً على التحديق، وقامتها تجذب؛ لو تنزل، وتتمشّى بغنج.. ما تزال لديك حواسّ إذاً؛ تغتبط، تستطيع أن تعجب، وتشتهي، لو كان لديك وقت، لو كنت قادراً على التركيز في هذا، أو قابلاً للتحديق. تستطيع أن تفكّر: إذا كان من يفجّرون أنفسهم، يفعلون ذلك من أجل الحوريّات؛ فمن أجل من يمكن أن تفعل هذه اللطيفة؟! وهذا الأنيق؛ هل يمكن أن ينتحر؟! سواه مرّروا منتحرِين، أو مرّروا لهم أدوات أو عناصر. لا بدّ من التثبّت من كلّ منهم. وكيف تتثبّت؟! هل تعرف كلّ العائلات، كلّ المواطنين، أبناء المحافظات كلّها؛ حتّى أبناء المحافظات الساخنة؟! كلّ شيء ممكن، متوقّع. هذه الأحداث، لم يعد فيها ما يفاجئ، ولا يمكن أن تأمن أيّ جانب.
ضحكت.. وأنت تتذكّر طرفة قديمة، تحقّقت؛ لم تعد طرفة؛ بل مأساة! ذاك العسكريّ الذي سُئل: ماذا تقعل إن أتاك العدوّ من يمينك، أو من شمالك، أو.. من الجهات كلّها؛ فقال: أليس في الميدان غير حميدان؟! صار العدوّ يمكن أن يأتي من أيّ جهة، من كلّ جهة، حتّى من فوق، وأنت واقف دريئة ثابتة منظورة ومحدّدة.. يا..
ليس مهمّاً اسمك، مهنتك، ولا من أين؛ كيف تنام، متى، أين.. ماذا تأكل، أو تشرب؟! كيف تستحمّ، أو تغسل ثيابك، أغراضك؟! ما من شيء مهمّ أكثر من أن يبقى العبور آمناً، أن يمضي العابرون بسلام، وأن يصلوا إلى بيوتهم بأمان؛ بيوتهم الأصليّة، أو تلك التي صاروا إليها، أن يدخلوها آمنين، ليلتقوا أبناءهم، أو ليصل أبناؤهم بعد طول انتظار، حتّى لو كان الغياب قصيراً في الزمن!
تفكّر في هذا فقط، كي يتسنى لك أن تعود إليها، إليهم، بخير، وبنفس ورمق وإحساس.
وماذا يفعل أبناؤك الآن؟! وأمّهم، التي تقول بغصّات: “قبلت بك أستاذاً للعلوم، قريباً دافئاً، لا… بعيداً بارداً شارداً عنّي وعنّا، حتّى حين تكون بيننا لزمن خاطف، بعد غياب يطول، حتّى حين تسأل عن كلّ شيء، تدقّق في كلّ أمر، تحدّق في كلّ ما تحطّ عليه عيناك، ومن يخطر ببالك: من؟! ماذا؟! من أين؟! لماذا؟!
بات الشكّ يشغلك، ولا أقول يقتلك! لأنّك كنت تقول: الشكّ مفتاح اليقين، وكنت ترتاح أكثر إلى القول المغنّى: أكاد أشكّ في نفسي! وحين أقول: أمّا أنا فأكرهه. كنت تتابع ضاحكاً: “لأنّي… أكاد أشكّ فيك وأنت منّي!”
*
اختلف الوضع، كان شكّه يتناول الكثير ممّا يراه سواه مسلّمات، في شؤون الطبيعة والحياة ومصدرها، وما يقال من تفسيرات غيبيّة، ويقول: أنا رجل علميّ، أقتنع بما يقوله العلم، حين يقال، وقد شهدتُ الكثير من الحوارات: العلم لا يستطيع تفسير كلّ شيء. يقول: سيفعل، وما تقولون إنّه يفسّر كلّ شيء، لا يمكن البرهان عليه، ويحتاج في كثير منه إلى التسليم؛ لأّنه خارج القدرة على الإقناع، ولا تستطيع الإيمان بما لا يقتنع به عقلك، ويقول: عمل العقل التحليل والاستنتاج والربط؛ فلمَ نعطّله؟! ولماذا يجب أن نصل إلى الحلول النهائيّة حالاً؟! ومن قال: إنّ أمور الدنيا والكون مرتبطة بنا فقط، تخصّنا فحسب، كلّ شيء مخلوق من أجلنا وحدنا؟!
لم أكن أحبّ هذا الحوار؛ لأنّه متعب، وبلا طائل.. أمّا الآن فقد صرت أكرهه أكثر، فقد تملّكه الشك إلى درجة مقلقة، وتملّكني!
وكان يضحك حين يقال: القاتل فوق، وليس على الأرض، والحذر لا ينجي من القدر. ويقول: من منّا يعلم ما هو القدر؟! وما الذي يحول بيننا وبينه؟! وما الذي يستدعيه؟! وبات لا يحبّ هذا القول؛ كما لا أحبّه؛ ويقول: نحن نعمل ما علينا، والباقي على القدر؛ وصرت أقول له: انتبه لنفسك. وأردّد بيني وبين نفسي: لتأخذ حذرك ما تستطيع! لكن لا تشملنا بحذرك، لا تشكّ في كلّ شيء؛ أو على الأقلّ لا تدمّرنا بظنونك!
كان يحتاط، ويحذر، يلتفت بسرعة إلى الجهات، وينصت إلى أيّ نأمة، ويحدّق في كلّ اتّجاه، حتّى إلى فوق! وبتّ أخاف من هذي الحال. يستيقظ مرّات في الليلة الواحدة.. أحياناً يتحدّث عن كوابيس، وأخرى عن أصوات نسمع بعضها، وهو مألوف، ولا نسمع أخرى، ويفترض أنّه صار مألوفاً لديه؛ لكنّه يطيل التحديق إلى فوق!
كان يتوقع كلّ شيء، ويقول: الخطر ممكن من أيّ جهة، ونحتاط له بالمتاريس، بالرصد، بالتيقّظ والتنبّه، حتّى بالرمايات الاحترازيّة…
لكن، لم يكن يستطيع، من على الحاجز، أن يفعل شيئاً لِما يبدو أنّه جاء من فوق!
***
غسان كامل ونوس