الجنون الزاجل!
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
تختلف حال الجنون في النصوص الأدبيّة عنها في الواقع؛ لا من حيث الشخوص والهيئات، التي يتولّاها، ويتمثّلها، ولا السلوك، الذي قد يتشابه في كثير من التصرّفات والممارسات، ولا الحالات التي قد تتقارب مستويات وأشكالاً، وأسباباً وأفعالاً وردود أفعال؛ بل من حيث كونه منطلقاً وسبيلاً ووسيلة إلى مديات ومستخلصات ومغازٍ، يتوسّلها الكاتب، ويتوسّمها؛ من خلال ما يفترضه، ويهيّئه من ظروف ومناح وبيئات ومناخات وعلاقات، تساعد في الوصول إلى ما يتوق المؤلّف إلى إظهاره وتعميمه، وترسيمه وتأصيله، أو تحيل إلى ما يرمي إليه من مفهومات وتحرّكات، أو تعبّر عمّا يثير مخاوفه وقلقه، أو تنبّه إلى ما يبغي تفاديه أو معالجته أو التخلّص منه، أو يحثّ على التفكير فيه، والتساؤل حياله؛ عبر مؤلَّفه ككلّ. وإذا كنّا نبحث، في الواقع، عن الأسباب والدوافع، التي قد تكون وراء حالة الجنون، والأعراض الظاهرة أو المكتومة؛ لمعالجة الشخص المصاب، ومساعدته في الخروج من الأزمة، وتخطّي المعاناة الشخصيّة والمحيطيّة الحالّة، فإنّنا، في النصّ الأدبي، ننشغل بما يمكن أن يكون وراء ما كان؛ سواء أظهره الكاتب أو أخفاه عمداً؛ لضرورات فنّيّة، ونتقرّى تفاصيله وأبعاده وتعالقاته ومفرزاته؛ لا من أجل الشخص صاحب الحالة الإشكاليّة؛ بل من أجلنا، من أجل المجتمع بشكل عام، والحياة بوجه أعمّ؛ فليس مفيداً ولا مسوّغاً أو مقبولاً أن ترد حالة جنون مرضيّة عاديّة في مدوّنة أدبيّة؛ لمجرّد العرض المألوف أو المستغرب، ومهارات التوصيف والتسجيل، ولإظهار الحال الواقعيّة الممكنة، ولا للتسلية والظٌّرف والتنويع؛ بل إنّ من المفترض والمأمول والمستنتج، أن تكون لهذا مقاصد وغايات أسمى وأبعد، وأكثر تأثيراً وأصداء، وأغنى قيمة وجدوى.
وقد يكون الجنون المحور الرئيس في العمل الأدبيّ، أو المحرّك الأساس للملَكات والقدرات لدى المتلقّي، أو قد يمثّل رافعة مهمّة، إلى جانب روافع أخرى؛ وربّما كان ثانويّاً، يضيء جانباً من المشهد المطلوب إضاءته.
ومن الممكن أن يساعد تمثّل الجنون الكتّاب في حمل أفكار وآراء، قد تبدو غير منطقيّة، لا تليق بالأصحّاء، وربّما مستنكرة ومستهجنة ذوقيّاً وأخلاقيّاً، وأخرى مرفوضة رقابيّاً وسياسيّاً؛ فيقوم المؤلّف باستثمار الحالة المتلبَّسة، والموضوعة قيد التفشّي، في تمرير مقولات وإشارات غاية في الوعي والتعقّل، موغلة في الجيوب والأنفاق والأعماق، التي تخزّن الكنوز والأرصدة، وتأتي كلمة السرّ على لسان مجنون، وتقدَّم الإرشادات والوصايا المستورة محفورة أو مرصودة، للوصول إليها والكشف عن جواهرها، وقد تكون عبارات غامضة، وتوريات وأحجيات ورموزاً، تمثّلها أقوال المجنون أو المجنونة، وتحتاج إلى فكّ شيفراتها، والتخويض في تفسيراتها وتأويلاتها؛ للوصول إلى الجنى المطلوب؛ وهذا في حدّ ذاته محفّز ومشوّق وجذّاب، لمن يهوى المغامرة الفكريّة والتنقيبيّة والتحليليّة، في البحث عن صيد ثمين وثمار مجزية في حيّز كتوم وإطار معصوم!
ولا شكّ في أنّ الجنون النصّي، يقدّم هيكلاً صلباً غنيّاً بالمعلّقات والحواشي، يمكن للكاتب امتهانه واكتنازه، واللجوء إلى حيثيّاته ومفرداته؛ لتقديم أطروحاته ومعطياته؛ ويؤمّن أحيازاً فسيحة مكتنزة بالحوامل المادّيّة والمعنويّة، التي يمكن أن يتّكئ الأديب عليها للعبور بما لديه من مستورات ومحظورات، قد لا يجرؤ على طرحها على ألسنة الأسوياء، وهذا ما يعينه فنّيّاً؛ وحسب مقدرته وطاقاته، على تجنّب المباشرة والفجاجة والتقريريّة؛ ومرجوّ هذا ومستحبّ في الأدب.
ويمكن للجنون أن يفضح المستور، أو يدين شخصاً أو موقعاً أو قانوناً أو ممارسة أو حكماً أو شريحة، أو أسرة، أو مؤسّسة أو مجتمعاً، ويمكن تحريك ما يبدو أنّه قارّ ومنسجم ومتماسك وقويّ؛ ليظهر على عكارته وتناقضاته وهشاشته، وقد يهشّم الجنون ما هو محميّ ومحصّن ومبجّل ومقدّس، وقد يشوّه، ويشوّش، ويغيّر النظرة، ويبدّل المواقف والتحرّكات والنتائج، التي كانت منتظرة، أو يشكّك في معاييرها وشرعيّتها وحتميّتها، وربّما من خلاله يمكن التعبير عن موقف من الحياة بلا عدالتها، وقوانينها الطبيعيّة الصارمة أو العشوائيّة، أو التساؤل عن الكون وامتداداته الزمانيّة والمكانيّة من قبلُ ومن بعدُ، وعن الأصل والدافع والمعنى والجدوى.
وقد يلجأ أحد شخوص النصّ؛ بإدارة من وعي المؤلّف أو لا وعيه، إلى ادّعاء الجنون؛ لاكتشاف شيء ما، أو للوصول؛ عبر الاستهتار به، وعدم الاهتمام بوجوده، وملاحظته، وهذياناته، إلى معلومة أو سرّ أو أصل أو حقيقة.
وكما في الواقع؛ فإنّ لحالات الجنون درجات، ينبغي التعامل مع ترسيماتها بدقّة وحذر ووعي، وعدم الاستهانة بالحالة وما تحتمل، وإلى ماذا يمكن أو تؤدّي؛ كما يفترض عدم المبالغة في العرض إلى درجة الاستعراض، ولا في التهويمات إلى درجة اللامعنى أو العماء المشهديّ والتحليليّ؛ وللاحتضان والتعاطف في التدوين مقدّرات، وللاستهجان والنفور مستويات؛ فمن المطلوب والمرغوب ومن غير المقبول تجاوز ذلك؛ لأيّ سبب. ولا يعني كلّ ما ذكر أنّ السيطرة على الحالة، والتحكّم بها، وتجييرها لغاية ما، أمور سهلة أو في المتناول؛ بل إنّ الأمر منوط بإمكانيّة المؤلّف، وسعته ومخيّلته وثقافته وغناه. ولعلّ من المفارقات التي تحضر في هذا المقام، أنّ على المبدع السويّ ظاهريّاً وافتراضيّاً- إذ إنّ هناك حالات جنون إبداعيّة، تثمر الجميل والساحر- أن يكون بالغ القدرة بملكاته وطاقاته، التي يعرفها ولا يعرفها، على استثمار حال اللاوعي الإبداعيّة المنصوصة؛ لإظهار أحكام وقيم ومقولات وأفكار حياتيّة إنسانيّة وجوديّة مقروءة أو مرصودة، أو رهن القلق والضياع والوهم، أو قيد البحث والسعي والستفهام؛ ما يذكّر هنا بقول على لسان مجنون ليلى:
وكيف يداوي القلبَ من لا له قلب؟!
إنّه جنون الوعي، أو الجنون الواعي؛ فهذا سؤال إنكاريّ واع من قبل كائن غير واع؛ وتلك هي المفارقة، أو المغامرة المحسوبة والمرصودة والمدّعاة، التي قد لا تقتصر على حضورها المؤثّر في الأدب؛ إنّما تنتقل إلى شخصيّات في أذهان المتلقّين، وسِيراً في حكاياهم، ورموزاً في معاملاتهم ورؤاهم ومصائرهم؛ ربّما، وتحمل الألقابَ والأحجام والمسؤوليّات للتشبّه بها ومجاراتها، أو مفارقتها وتجنّبها، والعمل بوعي وجدّ كيلا نصل إلى مرحلتها المتفاقمة. وقد تكون الألقاب وصفاً لحالة، أو تذكيراً بها، أو تلميحاً وتشبّهاً وتمثّلاً، أو دعوة لها، أو تقريعاً وتسفيهاً وتمويهاً؛ فهناك مجنون أنثى؛ أو مجنون حالة، أو مجنون حيّز، أو منطقة، أو مدينة، أو مجنون زمن أو عهد، أو مجنون قضيّة، أو مجنون مصير، وقد تذكر هذه الألقاب رفقة الجنون، أو يشار إليها من دون تصريح؛ لكنّها تبقى متلبّسة بالحالة؛ ولا داعي ولا حاجة ولا ضرورة لجنون مجانيّ أو مطلق أو منبتّ في الإبداع، وإن كان هذا ممكناً في الواقع، أو على الأقلّ لا تُعرف مرجعيّاته ومقاصده؛ وإن إلى حين؛ إذ لا يُبحث عنه، ولا يؤخذ على محمل المعالجة والشفاء؛ عسفاً أو جهلاً؛ إنّما للأسف، قد تترك لتتلاشى من دون أثر؛ وهذا ما يمكن التقاطه في الإبداع، والاستفادة من حيثيّاته، لغايات متعدّدة؛ وهنا يمتنع الجنون عن أن يكون بلا هدف أو معنى.
وليس عبثاُ ما قيل ويقال: الجنون فنون!
وجنون الإبداع زاجل، ينقل رسالة من عمق وبعد، أو يبوح بسرّ يسير أو خطير، أو ينبثق رؤيا إلى الأرجاء والفضاءات، وينتثر أضواء على أركان مهجورة، أو مستورة، أو مرذولة؛ أو حبّذا أن يكون كذلك.
***
غسان كامل ونوس