الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الشارقة الثقافيّة العدد 40
تاريخ النشر: 2020-02-01

لا يخفى على متابعي الشأن الثقافيّ، أنّ عدد النسخ التي تطبع من الكتب الأدبيّة باللغة العربيّة بشكل عام، قليل، ويقلّ؛ سواء أكان ذلك في المؤسّسات الرسميّة المعنيّة مباشرة بالثقافة، أو في دور النشر الخاصّة.. مع ذلك، قد تبقى نسخ عديدة منها خارج التداول!
وعلى الرغم ممّا ما يزال للكتاب الورقيّ من أثرة وألفة وقرب؛ تجعله أليفاً وحميماً؛ ولاسيّما لأجيال ما قبل الثورة الالكترونيّة.. فإنّ المسألة لا تتعلّق به؛ بالرغم من تأنّقه وتبرّجه شكلاً، والتغيّر في تنسيقه وإخراجه متناً، وربّما معنىً وفكراً؛ بقدر تعلّقها بأسباب متنوّعة أخرى؛ منها قلّة طالبيه، وشحّ القرّاء، وضعف القراءة!
وبدلاً من التشاكي والتشامت بأرقام وأعداد مخجلة، يتمّ تداولها هنا وهناك، عمّا يطبع من كتب، وعن الذين يقرؤون، في بلداننا العربيّة، أو معدّل الزمن الذي يُستهلك في القراءة من قبل الفرد العربيّ؛ مع عدم المراهنة على دقّتها ومصداقيّتها، والمراهنة على أنّ الواقع لا يرضي!
وبدلاً من الوقوف على الأطلال، والحديث المؤسي والمفجع عن القضيّة؛ هذا الذي اعتدناه، ونجيده في مختلف المجالات، ونكتفي بذلك؛ من دون البحث الجادّ الواعي عن الأفضل والأجدى؛
وبدلاً من أن نصرف الوقت والجهد في الكلام عن أخطار وسائل الاتّصال والتواصل الاجتماعيّ؛ ولا سيّما على الجيل الجديد، تلك التي تنتشر باطّراد؛ هذا الذي نجيده، أيضاً، ونمارسه بشدّة بالأمر والنهي والتحذير والتنبيه، ولا نجيد التعامل مع هذه الحالة التطوّريّة البشريّة الطبيعيّة، التي أصبحت واقعاً قائماً، ولا نحسن فهمها واستيعابها واستثمارها؛ وصولاً إلى الاستفادة القصوى من إمكانيّاتها وميزاتها..
دعونا نفكّر بأسلوب مختلف..
لقد كنّا منذ وقت ليس بعيداً، نشتكي- هذا الذي نجيده أيضاً وأيضاً؛ تسويغاً لعدم اهتمامنا الثقافيّ ربّما- من ارتفاع ثمن الكتب، الذي يتواصل مع استمرار ارتفاع أسعار الورق والحبر، وكلفة الطباعة والتوزيع والشحن والتنقّل، ومشكلات الحدود بين الأقطار الشقيقة، وإشكالات المنع الأخرى؛ من دون أن نتساءل عمّا يصرف بلا مسؤوليّة في مجالات أخرى، ولا عن مقدار الهدر غير المحسوب من قبلنا أفراداً ومؤسّسات عامّة؛ وخاصّة، في ما لا طائل من ورائه، ولا فائدة أو جدوى.
لقد صارت الأجهزة الحديثة في متناول مختلف الأعمار، حتّى الصغار، وللمفارقة، لا تُسمع أيّة شكوى من أثمانها المرتفعة؛ بل يتمّ السعي دائماً إلى امتلاك أكثرها حداثة وسعة ودقّة في أخذ الصور، وعرض البرامج المصوّرة، والوصول إلى الأبعد والأعلى والأعمق، من الكائنات والأشياء، والحصول على المواد والوسائل والأساليب، والتفصيلات الدقيقة في كلّ شيء..
وتأتي الإشارة هنا إلى هذا الجانب؛ لانتشاره واستشرائه بلا أيّ عائق، ولأنّه يُستحضر في أوّل سلّم المسوّغات؛ بل الاتّهامات، التي تتناول أسباب أزمة القراءة والكتاب، وربّما الثقافة (والوعي) لدينا! وقد يكون وراء هذه التهمة/العذر؛ ككثير من الأفكار الأخرى، ترسيخ ما هو قائم، وإراحة النفس والضمير، ونفض المسؤوليّة عنّا تجاه ما هو قادم، وربّما سيكون أظلم!
وإيماناً بضرورة المنطلق الإيجابيّ في التفكير في مختلف الموضوعات، والميادين، وضرورة عدم الاستسلام للسلبيّات، ومحاولة البحث الحيويّ والفعّال عن الاستفادة من الظروف المستجدّة والمستمرّة في تجدّدها، والإمكانيّات المتوافرة والممكنة؛ بل المتصاعدة؛ فإنّنا نرى في هذا الذي يُشتكى منه، كثيراً من الفائدة، التي يجب أن نكتسبها، والجدوى التي نأملها!
فلم يعد مطلوباً في نطاق سرعة الاتّصال والتواصل وسعته، أن نتسقّط أخبار المراجع والموسوعات والكتب القديمة، أين تباع؟! وهل هناك طبعات جديدة؟! وهل نفدت؟! إضافة إلى الكتب الحديثة المتنوّعة، وما يصدر منها، وأماكن وجودها، والشكوى من صعوبة الوصول إليها؛ إذ صارت الأجهزة الحديثة المرافقة مكتبة متنقّلة، تحمل ما غلا ثمنه، وانعدم وزنه من مختلف الإصدارات؛ قديمها وحديثها، وصار ممكناً الوصول إليها بعمليّة بحث بسيطة وسريعة، لمن أراد ذلك، ويمكن أن تبحث عن الموضوع الذي تريد بالتحديد، والمعلومة التي تطلب بالتخصيص، وتستطيع أن تتحقّق من صوابيّة كلمة أو فكرة أو عبارة شعريّة، والتأكّد من قائلها..
فدعونا نستفد من ذلك، ونحوّل حرصنا التحذيريّ إلى حرص تشجيعيّ تحفيزيّ على القراءة الالكترونيّة، ولنصوّب اهتمام حاملي الأجهزة إلى ما تحتويه من ثقافة متنوّعة بسيطة ومعمّقة، في مختلف الأقسام والأنواع والمجالات العلميّة والأدبيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة…
إنّ ما صار ممكناً الوصول إليه من برامج وندوات ومعلومات وفيديوهات وصور؛ من خلال أجهزة التواصل والحواسيب، والشابكة، يجب أن يجعلنا ننظر إليها، ونتعامل معها بشكل مختلف، ويحمّلنا مسؤوليّة مضاعفة؛ تتمثّل في إغناء الشابكة بالمواقع والصفحات الحافلة بالكتب العتيقة والجديدة، والدوريّات المهمّة بأعدادها السابقة والصادرة حديثاً، وخلال وقت قصير من نشرها؛ كما أنّ من الواجب أن نعدّ البرامج والخطط، والدعايات والإعلانات، التي تفيد في هذا، وتدعو إليه، وتبشّر به، في البيوت والمدارس والأماكن العامّة والخاصّة المعنيّة؛ مرغّبين ومحفّزين لا مهدّدين ومنفّرين..
ولا أقصد من هذا الكلام التقليل من أهمّيّة المعارض التقليديّة، وحميميّة العلاقة مع الكتب المطبوعة، واقتنائها؛ بل إنّه تطوّر مرافق مطلوب ومجدٍ؛ من دون أن يفوتني أنّ بعض مجتمعاتنا ما تزال بعيدة عن هذه الثقافة ومتطلّباتها، وأنّ هناك كثيرين لا يستطيعون إلى الآن الحصول على ما يتطلّبه العيش الكريم؛ ناهيك عن مثل هذه الوسائل الحديثة؛ مع العلم أنّ حمّى هذه الوسائل تجعل كثيرين يفضّلونها على احتياجات ضروريّة!
ولا بدّ من التأكيد أيضاً على أنّ التعامل الأكثر شيوعاً مع هذه الأجهزة والوسائل والأدوات، يجري في سياقات أخرى مفيدة وغير مفيدة، وأنّ مغريات كثيرة وملهيات أكثر، ستكون في الطرق والمنعطفات؛ لكنّ ذلك يمكن تفاديه وتجاوزه، إذا ما أحسنّا التوعية بالوسائل الحضاريّة الإنسانيّة، وبالطرق الإرشاديّة، وبالمهارة والألفة والودّ في العرض والتقديم، والغنى والتنوّع في المادّة المقدّمة؛ والمشاركة الممتعة والمجدية من قبل المتلقّين، مع حوافز أخرى مناسبة…
***
غسان كامل ونوس

اترك رداً