ليس آخراً
البقية تأتي..
غسان كامل ونوس
أفكر فيك؛ ذلك أمر مفرح؛ لا لأنك تستحق، ربما كنت ممن يستحقون؛ ولا لأنك في بالي دائماً، وقد تكون ممن هم في بالي، وبصرف النظر عن نتيجة التفكير أو مآله، أنا مغتبط؛ لأنني ما زلت قادراً على التفكير، بعد كل ما مرّ من ظروف ووقائع، وكلّ ما عاينتُ، وعانيتُ؛ بل عانينا جميعاً.
أنا مغتبط؛ لأن المقصود من كل ما جرى؛ بل أحد أهمّ أهداف ما حدث، هو أن لا أفكّر، أن أستخفَّ بما لديّ من العناصر التي تفيدني في ذلك، أن أرمي تحت الأقدام ما حصّلت من معرفة وعلم وخبرة، أن أغلق بوابات الخطا، وأسدَّ كوات الضوء، ومنافذ الهواء..
كان مطلوباً، وما يزال، أن ألتجئ إلى غرائزي، وأفلت الزمام لشهواتي، وأعطي قياد مساري لنزواتي.. كان يجب أن أسلِّمَ لأسلَمَ، فأوتى أجري مرات؛ وايّ أجر أو ثمن أو بدل؛ أن أردّد ما ألَقَّن، خلف الكاميرات أو وراء الجدران، في أثناء اليقظة الغائمة، أو خلال النوم السلطان، أو التنويم المبجّل؛ وأن أتبنّى ما يقال وما يشاع، وأدافع عنه، وأضحّي في سبيله؛ كان يجب أن لا ألقي بالاً لمن يأمر بلا مرجعية، وينهي بلا مشروعية، ويحكي بلا قيمة، ويجرّم ويعفو وينتقم.. بلا قانون أو ورع أو حساب!
أعترف أن هذا كلّه ليس وليد هذه الفترات العصيبة؛ كان ذلك منذ صرت أعي، أفهم؛ بل منذ بدأت التفكير، ومحاولة التحليل والتفسير، والوصول إلى نتائج تختلف عما يُعمَّم، وحقائق تعاكس ما يُسوّق.. ولم تكن نتائج الرفض ذاك مقبولة أو سارّة، ولا منعكسات المواقف المتسائلة أو المشككة أو حتى المتريثة – هيّنة أو عابرة.. لكنني واجهت وقاومت، صبرت وصابرت، وعبرت الكثير من المفازات والاختناقات والغصات، وهذا ما حرمني الكثير من الأعطيات والامتيازات.. التي لم أطلب، ولم أنتظر! ولم يزعجني هذا؛ لأنني كنت أرى فيها إهانة، إن كنت لا أستحقّها، أو كان من يعطيها لا يستحقّ أن يكون قادراً على المنح، ويمكن أن تكون أعطيت لآخرين لا يستحقون..!!
لكن ذلك لا يجعلني أقبل ما هو أدنى قيمة مما أستحق، ولا أكثر.. ممن هم أقلّ قيمة، وفي شروط أظلم، وحالات أشدّ عتمة، ما يجعلني أخون نفسي وتاريخي ومبادئي وسيرتي، والأهمّ أفكاري وقناعاتي.. لهذا أقول إنني فرح؛ لأنني ما زلت أفكّر، ويمكن أن لا تكون النتيجة في صالحك. صحيح أنك ما تزال قادراً على الإقدام والإحجام، وما زلت من أكثر المستفيدين مما يجري، ولكنني مازلت أفكّر، وأستغرب كيف تتجرأ على الطلب مني أو من سواي ما تطلب، وكيف تظنّ للحظة واحدة أنّ بإمكانك مغافلتي، أو إقناعي، أو تهديدي؟! وكيف تبادر إلى تفكيرك أنني ممن يغيّرون السموت، ويتغيرون مهما اشتدت التيارات، وعصفت الرياح..؟! حتى لو تغيرت أنت، وتبدّل سواك، وتهاون آخرون، وهانوا، حتى لو مالت السفينة، أو تظنّ ذلك، وحتى لو اختلف المتنفّذون في كل عهد، أو تراضوا، وارتضوا ما لا يرضي ذا العقل السليم والمنطق القويم، واستهانوا بما بذل وأريق، ويساومون عليه وعلى ما هو أدهى..
ما زلت أفكر، ولست وحدي، وليس هذا قليلاً، وقد لا يكفي نتيجةً وخلاصاً، ولكنه ضروري وأساسي وضمانة، والبقية تأتي..
***
الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ليس آخراً-جريدة الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: 2013-01-26
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy