البعث حال ثقافية، تلخّصها التّسمية، وتفترضها الغاية، ويروّج لها الشعار، أمّا من سيسعى إلى تحقيقها فهم نحن الذين انتسبنا أو نسِّبنا إلى صفوفه، ولا يقتصر الأمر علينا، بل إنّ هناك بعثيّين بالفطرة والوعي والرؤيا والممارسة.. ولئن ظهرت بعض أدبيّات البعث منذ عقود، على الرّغم مما اتّهمت به من اتّكاء على بعض أفكار تلك المرحلة التي قد تبدو خارجيّة، وتضمين لبعض المفهومات التي قد لا تتناسب مع فكرة الانبعاث والتضحية، فقد كانت الحال الثقافية بائسة، سواء في التنظير، والتفكير، والتعامل مع المستجدّات على الصعيد المحلّي، والإقليمي، والعالمي في مختلف الميادين الفكريّة، والسياسيّة، والاقتصاديّة.. أو في الممارسة على الأرض، وتضاءلت ظلالها حتّى تلاشت منذ ربع قرن تقريباً، فلا كتب فكرية، ولا كرّاسات، ولا اهتمام بالمثقّفين من البعثيّين، إن لم نقل أكثر من ذلك، فهل يمكن أن يقضي شاعر البعث والعروبة الرّاحل منذ أيّام الكبير سليمان العيسى ربع قرن خارج سورية؟! حتّى لو كان ذلك في اليمن، وحتّى لو كانت “بلاد العرب أوطاني”، لكنّه يستحقّ حضوراً مميّزاً في “عرين العروبة”، فهو ابن لواء الاسكندرون السليب على أقلّ توصيف، ناهيك عمّا قاله في البعث وللبعث، وما قام به وهو في الصفوف الأولى، من رفع لراية البعث خلال عقود، وتعميم لمفاهيمه شعراً وسلوكاً، وهذا ليس سوى مثال لازم، لكنّه كاف، بل صارخ، لقد تقلّص الموضوع الثّقافي الذي كان بنداً رئيساً في الاجتماع الحزبي، حتّى تلاشى على هزالة تقديمه، كما المناظرات والندوات، وغابت النشرات التي كانت تحمل أجوبة عن استفسارات كان يطلقها الرفاق في الاجتماعات، ربّما لأنّه لم تعد هناك أسئلة، وهذه مشكلة حقيقيّة، لأنّ هذا يعبّر عن حال الجمود أو اللامبالاة أو الترهّل أو الاستسلام، وربّما لأنّه لم تعد هناك اجتماعات، وخاصة بعد أن صارت شهريّة!! وهذا إجراء تدميري بامتياز، لا لأنّ في الاجتماع غنى وتثقيفاً وحلولاً ناجعة، بل لأنّ تواصلاً في حدّه الأدنى غاب، وضاع التنظيم، وبهت الانتماء الذي لا يظهر إلّا في المناسبات التي ستسمّى فيها قوائم انتخابيّة في استحقاقات دوريّة، أو تُرشّح أسماء لمواقع ومناصب.. لم يكن الالتزام البعثيّ شرطاً أساسيّاً في ذلك، بل ليس شرطاً، ولا يُنظر إليه أو يعتدّ به، وإذا ما حدث أن طلبته جهة، تعمية أو ردّاً لاتّهامات ممكنة، فإنّ الوثائق تحضر بسرعة، وهي لا تعبّر عن الحقيقة ولا الواقع، وبالتّالي فإنّ علاقات من نوع آخر أخذت سبلها إلى الظهور والترسّخ، وهي لا تتعلّق بالفهم والخبرة والإمكانيّة والجدوى، بل بالتبعيّة والتسويق والرّبح والخدمة، وانتماءات مرضيّة أخرى، وقد ظهر ذلك بجلاء حتّى في الانتخابات الحزبيّة، ما اضطر إلى ترقيعها بما يُظهر العورة أكثر ممّا يخفيها، إذ تضع راسباً أو راسبة، أو من كان من أواخر الناجحين في موقع القيادة لتمثيل جنس أو طيف!.. ومن النّافل القول: إنّ الثقافة لم تكن واردة في أيّ تقويم أو تقديم، إذا لم يكن العكس أيضاً، ومن السخريّة المرّة القول: إنّ تدخلات من خارج البعث فعلت فعلها في القرار الحزبيّ ذاته في مختلف الشؤون، ومن السخريّة المرة أيضاً وأيضاً أن تكون غالبيّة المرشّحين إلى مهمّات ثقافيّة لا علاقة لهم بالثقافة، انظروا إلى مديري الثّقافة ومديري المراكز الثقافيّة، والمسؤولين الثقافيّين في المنظّمات والمؤسّسات والنّقابات.. فيما يتسوّل المثقفون البعثيّون مهمةً أو أمسية أو ظهوراً إعلامياً مبتوراً، وهناك أدباء فازوا بجوائز على مستوى الوطن العربي، لم يحظوا بلقاء أمين حلقة، لا بترشيح أو تقدير أو احترام، ولا بدّ من الإشارة الهامّة إلى أنّ المثقّفين الذين وصلوا إلى مواقع في الحزب كانوا أشدّ إقصاء لزملائهم المثقّفين، لأنّهم الخطر الأكبر القادم! وفي اعتماد هؤلاء المسؤولين على الجهلة والفاسدين، يمكن لهم دوام السيّادة والترفيع، وفي حال الاضطرار إلى اختيار مثقّفين لبعض المسؤوليات التي تعنيهم في مؤسّسات أو اتّحادات، فيتمّ الاهتمام بمن يؤمّن استمرار تلك الممارسات الكارثيّة الّتي أوصلت البنية الداخلية للحزب إلى قحط وجدب، لأنّ الثقافة ملاط أو زيت، بل روح تتيح التحرّك بسلاسة وحيويّة ورضى، وفي غيابها ستتصادم المكوّنات، وتتآكل الحوافّ والمسنّنات، وتتشوّه المعالم، ويغدو الكائن، فرداً أو منظّمة، هيكلاً مجرّداً من الملامح والتعابير، أو كومة من العناصر المعطّلة والعاطلة، أو الخردة.. تلك هي الحقائق المرّة الّتي لا يمكن تجاهلها، ولا القفز فوقها في أيّ عملية إصلاح أو ترميم أو انبعاث جديد، وقد تساءلتُ مراراً: وأمام “كبار القوم”: إذا ما كان “التوجيه” يتمّ على أعلى مستوى من المسؤوليّة من أجل أشخاص ومهمّات ومناسبات على قدر كبير من الأهميّة، فلماذا لا يوجَّه على مستوى قيادة الفرقة بأن يكون من بين أعضائها الخمسة واحد يهتمّ بالثقافة، فهل هذا صعب من بين العشرات؟! فهو سيرغّب آخرين، وسيزداد العدد على مستوى الحارة أو القرية أو الحيّ أو المنطقة، وقد تتضاعف أعداد الذي يتابعون النشاط الثقافي في المراكز الثقافيّة، أو عبر المنافذ الثقافيّة الأخرى أو يتحدّثون بما هو ثقافيّ وبطريقة حضاريّة حواريّة محلّلة ومتفهّمة ومعبّرة عن رغبة في الفهم والإقناع أو الاقتناع، هل هذا عصيٌّ، أو أنّه خارج التفكير والاهتمام والتقدير والرؤية والنزوع؟!.
وتجدر الإشارة الضروريّة إلى أنّ المسؤولية تقع علينا أيضاً نحن في مستوى الأفراد، ولا سيّما المثقّفين، فلا نتّبع الطرق القويمة في مطالبنا وطموحاتنا، ولا نقوّم كما يُفترض، ولا ننافس بشرف، ولا نختار الأفضل حين يتاح لنا أن ننتخب، وقد أتيح ذلك مرات.. من دون أن ننسى أن الجوّ العام الذي ساد في الحزب وباقي التنظيمات والمؤسسات أثّر في الواقع، بانكفاء بعض، وخيبة آخرين، وموات الكثير من الكفاءات والخبرات والعقول.
ولا يمكن أن تستمرّ الحال على هذا المنوال بأي شكل أو درجة، ويكفي ما كان من تبعات، وإذا ما أردنا الخروج إلى الحياة، فلا شكّ في أن المثقّفين الوطنيين، وخاصة البعثيّين، هم من يمكن أن يكونوا الروّاد في ذلك، لأنّ الأمر يحتاج إلى إقناع وترغيب وجذب للاستنهاض، ولا يمكن أن يكون كلّ ذلك من دون الثقافة، ولا سيّما أنّنا لم نعد وحدنا اللاعبين في الميدان، والمنافسة تقتضي وجود محاورين واعين ومقتنعين وتوّاقين إلى التلاقي والعمل بجدّ ومسؤولية من أجل الوطن الحاضر والمستقبل.
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة البعث
تاريخ النشر: 2013-10-30
رابط النص الأصلي: http://www.albaath.news.sy/user/?id=1837&a=151779