الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

الإصدار الأوّل

 شهادة ميلاد أدبيّة

ملحق الثورة الثقافيّ-

غسان كامل ونوس-

بالمصادفة، وبسعادة مضاعفة، كانت أولى إصداراتي الأدبيّة المطبوعة مجموعتين قصصيّتين في العام (1992م)؛ الأولى: “الاحتراق”*؛ طباعة خاصّة، والأخرى من مطبوعات اتّحاد الكتّاب العرب في دمشق: “هامش الحياة هامش الموت”، وقد ثبّت عليها العام (1991م)؛ لأنّها حصلت على موافقة الطباعة ذلك العام.

 لكن؛ للحقيقة والتاريخ، الكتاب، الذي كُتبت نصوصه أوّلاً، هو “الاحتراق”، الذي صدر على حسابي، عن مطبعة الشام في دمشق. وطبيعيّ أنّ النصوص القصصيّة، التي ضمّها الكتاب، دوّنت في أوقات متفاوتة؛ ثمّ جمعت في تلك المجموعة؛ كما حدث للكتاب الآخر، والكتب الأخرى. وحين أعود إلى نصوص “الاحتراق”، ينتابني إحساس البدايات الأثيرة، والخطوات الأولى، والرؤى الغامضة؛ بكلّ ما تحمله من شعور المغامرة والإقدام والتجريب والاكتشاف، وما يكتنفها من شغف وقلق وتساؤل وترقّب، وما يدفعها من هجس وتوق وحماسة وأمل… ويتملّكني، في أثناء قراءتها، ما يشبه عاطفة مراقبة طفلي، من بعيد، يقوم بعمل جليل، أفخر به وبإنجازه، وأفرح من أجله وأجلي، وأخشى أن يتعثّر، من دون أن أستطيع أن أفعل شيئاً.  

وليس غريباً أن أجد، في بعض محتويات الكتاب الأوّل، ما أتمنّى أن يكون قد ورد بشكل آخر، تكثيفاً، أو تعميقاً، أو بناء، أو اهتماماً أكثر في الصياغة والترقيم، ولكن لم يخطر في بالي إذا ما أعيدت طباعته، أن أغيّر في أيّ من نصوصه؛ لأنّه يعبّر عنّي، ويمثّلني، في مرحلة لا يمكن تجاوزها أو إغفالها؛ أفكاراً واهتمامات ورؤيا، وإمكانيّة ومعرفة وتجربة؛ هي مرحلة وحالة وهيئة، أحترمها بكلّ ما فيها، من عفويّة وصدق مع النفس والموهبة والدافع والرؤية والرؤيا، ومدى النظر وسعة البصيرة؛ وبكلّ ما تحمله، وتحتمله، من همّ ومعاناة وسعي حثيث، وهمّة واندفاع ورغبة؛ وانشغالات حياتيّة معيشيّة تحصيليّة، وأخرى مصيريّة ووجوديّة؛ وبكلّ ما يعتورها من نزوات وعثرات وخيبات، أثّرت في ما كتب، أو كانت في خلفيّاته أو بين ثناياه وظلاله.. إنّها جزء من تاريخي؛ فكيف يمكنني أن أنبتّ عنه، أو أقصيه عنّي؟! وبأيّ حقّ أتنكّر له؟! وهل يمكن أن أرفع درجاتي التي حصلت عليها في أيّ من الشهادات العلميّة؛ مثلاً؟! وهل يمكن أن أنفي ما سبق أن قمت به من ممارسات، وما مرّ معي من وقائع؟! أو أن ألغي كبوات وعلاقات ونتائج؟! هل يمكن أن أُخلق كما أنا عليه الآن؛ أفكاراً وخلاصات وقناعات؟!

وأعجب من كتّاب يخجلون من كتبهم الأولى، وقد يتبرّؤون منها، ولا يذكرونها في سيرهم الذاتيّة، ولا يعدّونها من إنجازاتهم!

  وأعجب أكثر ممّن يعدّلون إصداراتهم القديمة، إذا ما أعادوا نشرها، ويجمّلونها حسب رؤاهم آن الإصدار الجديد، ويغيّرون في محتواها؛ فهل يجوز هذا؟! أليس عمر الإنسان مراحل تتتالى؟! أليس تحصيله اكتساباً واكتنازاً واغتناء، وأسلوبه تدرّباً وتعلّماً حتّى من هنات وسقطات؟! ومخرجاته أليست ثمرة تجارب ومحاولات وخبرات؟!

وهل مقبول، بعد ثلاثين سنة، أن أحوّر في البدايات؛ لتصبح جذّابة أكثر؛ كما بتّ أعرف، وأغيّر في النهايات؛ لكي تصبح ملائمة لما وصل إليه الفنّ، وما صارت إليه المدارس الأدبيّة الجديدة، وما تستطيبه الأقلام الحاليّة، والأذواق المعاصرة الفنّيّة والعامّة؟! كما أعايش وأخبر؛ هذا الذي لم يكن في حسباني يوماً؛ لا في البدايات ولا في ما تلا؛ فإذا كنت منسجماً مع حالي وقناعاتي وتاريخي؛ فلن أخجل ممّا كنت عليه من إمكانيّة، وما ظهر منها عبر تلك المحاولات.

لا.. لن أعيد النظر في مضامين ذلك الكتاب الابتدائيّ، وأقدّر كلّ ما ورد فيه، وأعدّه وثيقة تاريخيّة؛ وشهادة ميلادي الأدبيّة؛ فكيف أغيّر ما فيها؟! وهل يمكن أن يغيّر المرء في شهادة ميلاده الشخصيّة؟! ولولا تجربتي في ولادته، ما كانت تجاربي التالية في سواه؛ إضافة إلى أنّ ما فيه، مستمرّ في كتاباتي الأخرى؛ بشكل أو آخر، بعدسة مكبّرة، أو بمسبار أدقّ، بمقاربة ومعالجة ومحاكمة، تتمايز أو تتشابه إلى هذه الدرجة أو تلك. ومن المهمّ أنّ ذلك كان، والأهمّ أنّ ذاك التداخل الأوّل مع الفن القصصيّ، والأدبيّ عموماً، لم يكن تطفّلاً، أو تسرّعاً، أو ادّعاء، أو مسايرة؛ بل جاء بعد قراءات جمّة في الأدب بأجناسه العربيّ والمترجم، والسير الشعبيّة المطوّلة، وألف ليلة وليلة، والفلسفة، والأساطير، وعلم الأحياء، والآثار، والحياة، والكون؛ ما كان، وما يكون، وما يمكن أن يكون.

كما أنّه لم يعد يخصّني وحدي؛ فهو جزء من تاريخ المشهد الثقافيّ المحلّي، وهناك من قرأه، وترك لديه تقويماً وانطباعاً وأصداء مهما كانت؛ إيجابيّة أو سلبيّة، وربّما كتبت مقالات عنه؛ مقرّظة، أو مقوّمة، ودخل في دراسات مقارنة، وكتب موثّقة لتلك المرحلة ثقافيّاً، وربّما كان مرجعاً أو مصدراً، أو أخذت شواهد منه لأبحاث أو استنتاجات، ولا يصحّ أن أسحب أصلها من التداول، وليس من حقّي. وهي صورة أو جزء أو صدى لفصول ذلك الزمان بمطرها وشحّها، بخيراتها ومواسمها، بمهنها ووظائفها؛ ولأناسه، وحيواتهم، ووعيهم، وظروفهم، ردود أفعالهم، وأدواتهم وأساليبهم في الحركة والممارسة، والسلوك والقول…؛ لقد بات كتابي الأوّل “الاحتراق”، جزءاً من بنيان مادّيّ ولا مادّيّ، أُنجز في تلك المرحلة، وبني عليه، أو اُستقي منه، أو اُتّكئ عليه؛ للوصول إلى الكيان، الذي يبدو- وأبدو- عليه الآن، وسيغدو التاريخ المعرفيّ للمنطقة هذه، والمرحلة الزمنيّة تلك، موضع شكّ، إذا ما غيّرنا فيه، وبدّلنا.

ولا بأس عندي من الإبقاء حتّى على الأخطاء الشائعة الواردة في تلك النصوص، والصياغات حتّى إن كانت مقلقلة، والأشكال التي كانت معهودة..

إنّ كتابي الأوّل يحمل جيناتي، وأتحمّل تبعاته وأصداءه، ولن أنكر صلته بي ونسبه إليّ؛ مهما كانت خلقته، وطبيعته، ومواصفاته، ومفرداته، وألوانه… إنّه منّي ولهم، ولكم؛ كما الكتب الأخرى، التي تجاوزت الثلاثين؛ أعترف بهذا، وأنا في كامل وعيي وقناعتي؛ على الرغم من اللاوعي، الذي يحمل قدراً من المسؤوليّة، والحالة اللاإراديّة الضاغطة آنذاك؛ فارجموني؛ بسبب ما اقترفت، وما حاولت أن أجنيه؛ أو ارحموني، وقد أخلصت النيّة، إن أحسنت التوبة والسؤال والقول والشهادة والوجود!

  • الاحتراق: قصص- غسان كامل ونوس- مطبعة الشام- دمشق- الطبعة الأولى (1992م)؛ عدد صفحاتها (104) صفحات من القطع الوسط؛ تتضمّن إحدى عشرة قصّة؛ هي: (الاحتراق- الضباب- البسطة- الجلجلة- الحصار- المغامرة- الطبق- اللحظات الفاصلة- أبو سرحان- صلاة الغائب- آخر الزيارات).

وكتب على الغلاف الأخير:

(هل هي الساديّة الموجودة في كلّ منّا.. ونخشى أو نرفض الاعتراف بها؟! غيرك يتلذّذ بإحراقك، وأنت لعجزك تتلذّذ بتدمير الأشياء.. بإحراقها.. اعترف.. لماذا لا تعترف؟! ألا تودّ أحياناً أن تكون سيّد هذا العالم؟! (هل هو توق الإنسان إلى الألوهيّة؟).

وحين تعرف أنّ (سيزيف) لا يزال يدفع الصخرة إلى قمّة الجبل كلّ يوم.. ومنذ زمن بعيد.. ألا ترغب بتدمير الجبل والصخرة وإحراق الأرض بمن فيها وما عليها؟! ألا تتمنّى خراب البشريّة؟!

لكلّ منّا “نيرونه” وحين لا نستطيع إحراق “روما” نحرق سيجارة.. ونحرق أعصابنا.. وثواني عمرنا المسرعة! (من القصّة “الاحتراق”).

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً