مابين عقل ونبض وقت يثار في زمن الفوضى، يرسم ابتسامات ورؤى لاتشبع إلا تلك الروح العطشى للحياة، إذ يتنقل بنا الأديب غسان كامل ونوس في الزمن عبر دفات كتبه وتجربته الأدبية الغنية بالتعابير والحداثة! إذ نلمح دوماً تلك الروح المستعصية على الزمن، والتي تحاول تقويمه وعدم الرضوخ له، فالوقت لدى الكاتب ليس (كالسيف إن لم تقطعه قطعك) بل هو بذاته الثروة، وبقدر ما تستفيد من وقتك فأنت غني الروح والكيان! مابين قصة ورواية وشعر وكتابات أصدر الأديب غسان كامل ونوس كتابه (قريباً من القلب) بعد سلسلة أسماها (كتابات) صدر منها: حالات- موضوعات ومواقف- في الثقافة والأدب، وبالرغم من رصيده الإبداعي الكبير والغني بوصف البيئة والمكان ثمة نفس مختلف يعرش على سطوره في “قريباً من القلب” حيث إنه لا ينتمي لجنس أدبي محدد، ويفرض صيغته الخاصة بعيداً عن أي تصنيف فيجمع مابين الشعر والنثر جمالياً، ويتحدث بنبرة السرد القصصي ويدخل في تفاصيل الرواية ليجعل من صفحاته المئتين وست خليطاً إجناسياً فاخراً يحتاج العمق والتفكر فيه بالرغم من بساطة كلماته، إذ نجده كثيراً ما يغوص في خبايا النفس والروح ولا يكاد يعجزه الكون حتى يتخطاه لكون أسمى وأكثر نقاء! كل شيء مقترن مع الوقت، من الموسيقى إلى الروح وحتى الوهم فيقول: “قد تحترق، حتى لو لم تحمل شعلة، حتى لو لم تقترب من النار، حتى لو لم يكن هناك نار. وفي شذرة أخرى قد تختنق من الفضاء المفتوح أكثر مما قد يفعل بك الحصار”. إذاً أي حصار يفرضه علينا الوقت ويتمتع بسلبه أكثر لحظاتنا أهمية ليزج بنا وسط انتظار محموم بالأسئلة والتراتيل الدنيوية “يالتلك الرحلة التي جمعتنا، المقاعد متزاحمة، والجوار اضطراري، وليس لي طريقة للهرب، وليس لديك بد من الرضا، يالتلك المحطة التي، كان لنا فيها، انتظار” . كما يعود بنا الكاتب لزمن البوح تدريجياً، فيصر على إدهاشه لنا والعبث بخواطرنا حتى يظن كل قارىء أن الكلمات موجهة له أو أنه سبق ومر بها لتضعه أمام مرآة روحه من جديد، فالكاتب يسترسل في عالمه الأدبي ويعيش الحالة حتى نهايتها، بعض كتاباته تقتصر على سطرين أو ثلاثة والبعض صفحات قد تطول، فهو يستلذ بطعم الحرف ويترك له الحرية في التمادي كما يفعل مع رواياته التي تتمرد فيها الشخصيات على قلمه وتختار لها منحى آخر لم يكن مقرراً منذ البدء!
حالة من السكينة بالرغم من الفوضوية والعبث تبثها مقتطفات الكتاب، تتخطاها تنسج طريقاً غنياً للذات وتفتح باب التواصل الكوني على ذراعيه، فالوقت المختزل يهرع إلى التأمل ومن التأمل إلى العشق الأبدي وغنى النفس والكلمة وحرية الذات بالرغم من تزاحم الخيارات والمناخ المحبط بسيل الأسئلة. يقول أيضاً:
(أحاول أن أقف على سر تعلقي بك، وأنت غير مهتم ولا منشغل، ولا مكترث، ولا حاس، ولاموجود!.سيمر الكثير من الحزن، سيأتي الكثير من الأسى، فلا تحزن على مافات من سعادة، ولا على ماكان يمكن أن يكون، من فراغ، لا تنس أن كثيراً من الفراغ مر، وكنت قاب قوسين، أو أدنى من اختيار النهاية)، تلك هي العبرة الحقيقية والأليفة التي تسللت صفحات مجموعته قريباً من القلب فكانت شكوى روح وقلب وعقل ونصيحة وبوحاً غير مفتعل، إذ تتجلى حساسية الحرف العالية في قوله (توقفي أيتها الأضاحي، عن الفقدان، فأنت تجرحين ماتبقى، من علامات فارقة، وتشوشين باستغاثاتك المكتومة، أجواء الاحتفال، بميلاد قاتل آخر،) وأيضاً في نسق آخر عندما قال: ( تمرين في الثنايا، المنذورة للاستثناءات، عليك إثبات أنك الاستثناء… أو أعيد فتح المعبر!) إنه الوعيد الحقيقي الذي أطره الكاتب في كتاباته وهو ما يهز شأن الأنثى ويلغي توازنها حقاً، لكن معادلته واضحة: إن لم تكوني الاستثناء، فسأعيد فتح المعبر، كم هي شاسعة المساحة التي خصها بها ليدخلها المعبر، معبر الوقت والقلب والوله، لم يتخل الكاتب غسان كامل ونوس عن سياط الرجولة في كتاباته رغم شفافيته العالية فهو رجل عاشق في حين، ومتأنٍ في حين آخر، لكنه على الدوام يلبس الوقت بدل أن يلبسه! كما يرسم معادلات الحياة مجدداً بصيغته الخاصة وكأنها سفر موروث كان مخفياً في جعبة ساحر يداريه عن البشرية ليطول الليل ويتمكن من سرقة النور والوقت فيقول:
(تحاول الشمس أن تتجنب الزهور، التي تحب أن تحترق، تحاول الشمس أن تداري، الغصون الطرية، التي تلح على أن تلوح لها، تحاول الشمس، أن تهدئ حماستك إليها، فلا تكترث بذلك، وتصر على أن تكون وجهتك، فكيف لا تحترق؟ ما الذي يبدد الجهات؟ ما الذي يبعثر المشاهد ويكثف الرؤى؟ ما الذي يوصد القلب؟ من الذي يحدد المحطة الأخيرة)؟.
الكتاب: قريباً من القلب- إصدار دار شرق وغرب، دار الفرقد للطباعة والنشر والتوزيع.
ديمة داوودي
missofword@hotmail.co
الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: ديمة داوودي
الناشر: جريدة البعث ع15024
تاريخ النشر: 2014-03-31
رابط النص الأصلي: http://www.albaath.news.sy/user/?id=1953&a=157479