الفئة: أدب
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ملحق الثورة الثقافي- العدد (1048)
تاريخ النشر: الثلاثاء (1-6-2021م)
1.jpg

الملحق الثقافي:غسان كامل ونوس *

لم ينجلِ غبار المعركة الأخيرة ودخانها عن ثيابه، ووجهه، ولا يكاد يقوى على نفضه.. ليس التعب وحده، والجهد المبذول، وحدّة التركيز الذي كان عليه، حتّى تمكّن ورفاقه من الاحتفاظ بهذا الموقع؛ لأنّ في خسرانه؛ كما لم يغب عن روعهم لحظة، احتمالات قارصة، فقد يتمكّن المسلّحون من الوصول إلى المدنيّين، فيصيرون دروعاً بشريّة، تصعّب عمليّة استعادتهم، وتمنحهم نقطة قوّة، هم بأمسّ الحاجة إليها، تساعدهم في الضغط أكثر على المدينة، التي تمدّ طرفها في هذا الاتّجاه، وتخفّف الضغوط على الجبهات الأخرى، التي ليست أقلّ سخونة.
كلّ ذلك كان في أذهانهم، وهم يصدّون أشرس هجوم في الآونة الأخيرة، وفي أذهانهم أيضاً أنّه ليس الأخير. وما عليهم سوى الاستعداد المتجدّد، في وقت غير معلوم، لعلّه لا يكفي لنفض الغبار، ولا للتفكير بحزنٍ فيمن فقدوا من رفاق، تمّ سحبهم بصعوبة، ولا تزال بقايا دمائهم على الثياب، وآخر مشاهدهم متشبّثة بالمقل، التي تكاد تكون رميدة.
لا يزال يدور في الحيّز الضيّق، مستنداً هنا على كتف ساترٍ صامد، متّكئاً هناك على ما لا يريح من شبه مرقد عزيز. هل يسهو قليلاً؟! هل تسمح له الأوقات الصعبة، التي عبرت توّاً، ولا يزال صداها ضاغطاً، بأن يغفو؟! وقد هدأت الأصوات القريبة؛ فيما الإيقاع غيّر الرتيب قوّة وفواصل زمنيّة، للبعيدة منها، لا يعتق كثيراً؛ فقد صار خلفيّة معتادة، تكاد تكون مملّة.
حتّى حركات رفاقه في الأحياء المشابهة القريبة، خفّ صداها؛ لعلّهم يحاولون الاستراحة أيضاً، من دون أن يفكّروا في الطعام، وقد شربوا، وصفعوا وجوههم ببعض الماء، ثمّ استكانوا، بالحذر المعهود، والقيلولة الشائكة.
  
لم تستطع إبعاد التفكير في الضيعة، ولا تريد ذلك. لعلّه المخدّر الناجع الذي يريحك، وتلجأ إليه؛ بل هو الذي يُلمح، في كلّ فاصل صحو، من جنون العواصف الصوتيّة المحطّمة لكلّ ما هو ناصع وزاهٍ وممكن. ولعلّها، تلك التي ودّ تقبيل الشرارات المتشابكة في المساءات والليالي، التي يتحيّن الأعداء استغلالها للمباغتة.. ويتقنون ذلك أيضاً؛ لأنّها تلمع كبارق ثغرها، وشرائط شعرها، ولألاء عينيها..
هي التي لا تزال بعيدة، بعد فرص اللقاءات الخاطفة، وقصيّة مدى اللقاء السعيد المنتظر، وهي قريبة لصق جفنيه، وارتعاش قلبه الذي يتصلّب كجلمود صخر في مواجهة أشرس كائنات، وأشنع مصير؛ فيما لو تمّ لهم اصطياده، ويشفّ حتّى يكاد يشكّ في وجوده، لولا ناره التي تحوّله جمرة لا تترمّد؛ كما كان يودّ لها في مَوقِدةٍ جمعتهما، وستجمعهما ذات زمنٍ يتشكّل، ويسهم في تكوينه، بما يواجهه في المعارك، وما يقوم به من استبسال..
أهذا هو سبب صموده المميّز، وابتداعه أشكالاً في الإقدام، تشابه إقدامه معها، الذي كان يغضبها أحياناً؛ فيقول: أتدرّب على اقتناص الفرصة، فتقول: أخشى أن تفعل بي ما تفعله بالمعتدين! ويقول: أخشى أن أفعل بهم ما أفعله معك.. فتقول: إيّاك.. أنا شديدة الغيرة؛ هذا لي وحدي!.
وكانت تغصّ بعد كلّ فصل، من دون أن يسألها: لماذا؟! أو أن يحاول التخفيف من غصّتها.
لا.. ليس مستحيلاً، ولن يكون بعيداً. سيحصل عمّا قريب.
هذا ما يفكّر فيه دائماً. هذا ما يسعده، ويقرّبه أكثر من الخطر، وهو ما ينبّهه زملاؤه من أجله. ولن يكتفي بما يقوم به رفاقه، وكثيرون آخرون، في خضمّ هذه الحرب الظالمة، زواج بلا ضجيج، الأهل فقط، ويمكن أن يُدعى المقرّبون كثيراً.. لا، لن يتزوّج كمن يسرق، أو كمن يقوم بعمل يخشى أن يعرف به الناس. لا.. سيقيم عرساً مشهوداً، وفي ساحة القرية، لا بالمقاهي. وسيكون مهرجانٌ للألعاب الناريّة، حتّى إطلاق الرصاص لن يمنعه، إن أحبّ أحد ذلك، فليرقصوا وليفرحوا، ولن يرقصوا الرقصة الخجولة. ستكون الدبكة، وزغاريد وهنهنات.. سيمزج بين عرس الماضي والحاضر. سيكون عرساً تاريخيّاً. لن يطول الأمر. لا.. لن يطول. هذه ملامحه، هذه أصداؤه، هذه وقائعه. الأصوات تندلع، الأصوات تقترب، منوّعة، متراكمة، متكاثفة.. من أين تأتي؟! هل اقترب العرّاسة قادمين بالعروس؟! من دون أن يعلموني، هل سيفاجئوني؟!..
اضطرب المهجع، تقلقل الموقع، بدأت الجلبة والحركة، لاستطلاع الأمر. تداخلت الجهات، أم أنّ الوعي لم يستجمع الحالة بعد، ولماذا لم يردّ المناوبون؟! أين الحرّاس؟! والأوامر؟! هل أخذونا على حين غفوة، أو سهوة؟!.
  
علّمتنا هذه الحرب أنّ ما من جهة آمنة، حتّى لو كانت الأصوات من الجهة الأخرى. ليس هجوماً مباغتاً، ليس تسلّلاً، تأكّدوا من الأمر. هي أفراح تقوم. تبدّلت الملامح، وانفرجت الأسارير، وابتهجت النفوس. هي الأفراح تقوم. لا تزال الأفراح في دياركم عامرة! لا تزال الأفراح تقوم، نجاح، زواج، عودة غائب، أو مغيّب، فوز في انتخابات، فوز منتخب أو فريق وطنيّ أو عالميّ، أو عيد بأيّة حال..
مهمّ أن تقوم الأفراح، أن تبقى الأفراح عامرة في الديار، ويمكنهم أن يفرحوا لفرح الناس، أن ينسوا تعبهم، وصبرهم، وصمودهم ومشاقّهم؛ لأنّهم يشاركون في صنع الأفراح، يحمون الفرحين، يؤمّنون لهم ما يمكّنهم من الفرح، اتّجهوا بأحاسيسهم صوب الجهة المشتعلة، وانفعلوا مع ما يجري. كلّ منهم تصوّر نفسه في الفرح الذي يحبّ، وحوله من يحبّ، وراحوا في أفراح يقظة.
  
الأصوات تتكاثف، وتقتربُ أكثر فأكثر..
أصوات لها وقع مختلف، وآثار تتفاقم، ومن جهات مختلفة..
* أديب وقاص وشاعر

التاريخ: الثلاثاء1-6-2021

رقم العدد :1048

اترك رداً