الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: جريدة الثورة
تاريخ النشر: 2014-01-29

أحاول أن أقترب من النار، لأختبر اتقادها، أو معدني أو لهفتي؛ أعتزم التخويض في المجرى الشلال، لأتقرّى سلاسته، وأتحسّس انسيابه واندفاعه، وأغوص أكثر، لأعاين حوافّه ونتوءاته، وأتحدّى قدرتي على التحمّل؛ أغامر في الاقتراب من هوّة الكشف الفريد، أو الفقد الأخير، لأتعرّف إلى صاحب الصدى، أو حارس الظلام، أو آخر النفق!
وليس ذلك بأقسى، أو أصعب ظروفاً وشروطاً وحالات واحتمالات..‏

لستُ ندّابة ولا نوّاحة، على الرغم ممّا في الجسد من جراح، وما في النفس من آلام؛ لستُ مدّاحاً، وفي المشهد وما وراءه ما لا يحصى أو يوصف من جسارة ومروءة، وفي الحيّز فيضٌ من إضاءات وإشراقات؛ ولستُ غازياً، حتّى إن «غوتْ غزيّةُ»، ولست متبلّداً؛ لم أكن كذلك يوماً، ولن أكون، حتّى لو لم أُدْعَ، أو أُعَنْ؛ ولستُ مبشّراً، مع أنّي أرى رغم القتامة إشراقاً، ورغم العكر ينبوعاً؛ ليس لأنّنا محكومون بأمل ساذج، أو وعدٍ أعمى، وليس البقاء تسليماً بقضاء مبرم، وتفويضاً بقَدَرٍ لا يَظلمْ، ولا لأنّ أقدار المرء مكتوبة على خلاياه، أو سيرته مقروءة في لوح محفوظ أو سيحفظ؛ فهذه ليست هي القضيّة، ولا البحث فيها هو الملاذ، أو الانصياع لسلطانها الذي لا يرحم؛ فقد يُسحب من الكائن ذي العقل ما قد يَشقى به، فيقعد أو ينبتّ أو ينكفئ؛ فلا مسوّغ للبذل، فيما كلّ شيء مقسوم!‏

ولكن.. لا بدّ من ان يكون معنى لعمر يتقاصر، وإحساسات تغلي، ومشاعر تفور، وتساؤلات تتقافز وتتنافر، وقناعات تفقد استقرارها؛ لأنّ جرماً ما قد غيّر مداره، فخرج أو أُخرج، دخل أو أُدخل في فضاء آخر، ولن يكون هيّناً الاستقرار بعدها، على الرغم من أن الكثيرين لا يُبالون؛ هل لأنّهم لا يعلمون؟! أم يتغافلون، ويتواكلون، ويتراجعون؟!‏

لستَ وحدك، ولم تكن وحدك يوماً، وليس بينهم من تتّفق وإيّاه على مسار واحد، وإيقاع واحد، وليس هذا ضروريّاً ولا ملزماً، لتتابع إليه السعي، وتكثّف في سبيله الجهود.‏

ولا تعني بمسارك أحداً بعينه، أو كائناً بذاته؛ حتّى إن حسبوا ذلك، واحتشدوا من أجله، مباركين أو مواجهين، محذّرين أو مصفّقين، وليس لتوجّهك غاية مرصودة بدقّة أو هدف محدّد بذاته. ربّما كنت تتوهّم وجود ذلك في البداية، وتكشّفتْ أمامك الرؤى، أو أظلمتْ الكوى، وناست الغاية التي كنتَ تعتقد، أو تلاشت، وبانت أوجهٌ أخرى، ومدارات أخرى، وكائنات أخرى.. ربما! ولا يريحك هذا؛ فأنت لم تعدْ تعدّ المسافة التي قطعت، وتحسب ما قد بقي، ولم تعدْ تأمل بوصول قريب، ومكوث يطول، ولا يتعبك ذلك أيضاً؛ لأنّك ما كنت من مريدي السكون، ومرتادي المحطات المهجورة، والموانئ الراكدة، وما كنت يوماً من دعاة التغاضي عن المنغّصات، أو التغافل عن الشوكيّات، أو معاندة المستفزّات..!‏

والقادم ليس بالضرورة أفضل منك، تتمنّى أن يكون ذلك، وإن كان لا يُصدَّق، والرابض ليس أكثر منك ثباتاً على المواقف، والناهض ليس أقوى منك، والغادي ليس أكثر منك حماسة، والفادي ليس أكثر جسارة، والقحّام ليس أجرأ، والمُنادي ليس أكثر منك دراية، والمحفّز ليس أكثر ثقة..‏

ولستَ هارباً حتّى إلى الأمام، ولا جزعاً ممّا كان، أو ممّا قد يكون. ولست متهاوناً في معاندة الطقس، ولا مستهوِناً ما قد يتغيّر بلا ضابط؛ بل هو حاصل حتماً، رغم حمّى التخوم والفروق في الفصول والعقول..‏

ولستَ مناصراً بلا تيقّن، ولا منساقاً مع تيار أو موج، ولا خوّاضاً بلا تعيّن، ولا نبّاضاً بلا تحسّب، ولا فيّاضاً بلا تمييز، لا سمحاً بلا قصاص، أو محاسباً بلا عدالة، ولا مقوّماً بلا يقين، ولامتّهِماً بلا دليل، ولا محاكِماً بلا وثائق، والشهودُ بلا اعتداد، رغم أغلظ الأيمان!‏

أنت ما أنت، ما تصبو إليه وتسعى، ما تعتقد به أو تستشعر به قريباً من أفكارك، وتستقرئ ميلاً مشابهاً أو متقارباً، وتستلهم رؤيا أقرب!‏

وقد تسترشد بسوى العقل: حدسك وخبرتك.. وقد تسمع غير النداء الصريح، والتسمية العتيقة، وقد لا تحضر حين يريدك الآخرون، ولا تختفي حين لا يطيقون ملامحك، ولا تبالغ في الظهور رغم المبالغة في الحضور، ولا تساوم على أيّ أمر، فتسقط بلا أدنى شكّ!‏

وإن حدث أن سقطت، وقد تسقط، فلا بأس، ولا عتب؛ أما إن فزت، وتأمل أن تفوز، فلا عرس، ولا شهب ولا قربان.. إلّاك!!

اترك رداً