بعيداً عن الشعارات التي نرفعها حبّاً بالآخر واحتراماً لوجوده وقدره، والبيانات التي ندبّجها بصياغات وعبارات محكمة البلاغة والتنزيل، والعنوانات التي نسفح في إثرها من العواطف ما يفيض؛ ومن أجل واقعيّة مطلوب معاينتها ومقاربتها كلّ حين؛ فما بالك بالأوقات الصعبة، والمنعطفات الحرجة، التي باتت ترسم مساراتنا، والجمر في موائلنا، والوخز والروائح الكريهة في محطاتنا… دعونا نتوقّف عند أمور تبدو بسيطة، ممكنة التطبيق، لكن إخراجها إلى أحياز الواقع وحيثيّاته يبدو عسيراً، أو عصيّاً.
ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ الآخر المعنيّ هنا- للتحديد والفائدة؛ فهذا الآخر قد يبدأ من النفس وينتهي إلى الأقصى والأكثر انبتاتاً- ليس العدوّ المكشوف، أو المتخفّي وتفضحه أقواله وعيونه، أو البعيد مواقف وغايات؛ وإن كان من الممكن أن يصاب ببعض الإشارات التي قد ترد، أكثر ممّا يحظى به القريب الموالي؛ بالاهتمام أنّ هذا مضمون، وفي الجيب (الصغير). لكنّنا قد نجد العكس في مواقف وحالات عصيبة؛ فنفتقده، ونحن أحوج ما نكون إليه، ونبدأ سيل العتب والقدح والاتّهام والإدانة، من دون أن نفكّر في ما قدّمناه إليه، وكيف تعاملنا نعه، وكيف كنّا ننظر إليه في كلّ ما مضى، وفي أوقات لم يكن يريد منّا سوى إشعار بالحضور والقيمة والجدوى، من دون إهمال أو تعالٍ أو استصغار.
أمّا المبادرات الإيجابيّة نحوه، فلم تكن في حسابنا، والاهتمام بمناسباته ليس له مكان في سلّم انشغالاتنا بمناسباتنا ومناسبات من هم أهمّ وأدسم، مع تذكيره، أو استشعاره بضرورة حضوره إلينا؛ استكمالاً للحشد، ومجاميع المشهد (الدراميّ) المنظور، واعترافاً منه بأهمّيتنا…
إنّ كثيرين من (عناصر) هذا (الكومبارس) طيّبون وصادقون، وليسوا ساذجين، أو من السهل أن يُضحك عليهم؛ وليسوا أملاكاً لانطباعاتنا، أو أجراساً لأهوائنا، أو حرّاساً لهيمنتنا، ولا أتباعاً يدورون في أفلاكنا، يسبّحون بجاهنا، ويستمطرون رضانا وعفونا… وهم ليسوا مشاريع ضحايا لنزواتنا ورغباتنا وأمزجتنا، وليسوا وقوداً لنهمنا، ولا دابكين في احتفالاتنا، ندماء حين نريد السمر، ومصفّقين حين نخطب، نوّاحين حين نكتئب!
ولا يصدّقون دائماً أنّنا نتفانى من أجلهم، ونبني الأمجاد لعزّهم، ونرفع البنيان في مزارعنا، ليفخروا بإنجازاتنا، ولا يعترفون في دواخلهم بأنّنا لا ننام الليالي من أجل هناءتهم؛ فحتّى البعوض لا يترك لهم راحة، في الوقت الذي لا يجرؤ على الاقتراب منّا، يتلملم خارج ناموسيّاتنا!
وحين نسنّ القوانين، لا نتورّع عن وضع أذن الجرّة حيث نرغب، وبما يناسب يساريّتنا أو يمينيّتنا، ولا بأس بأن نعلن؛ لنعيّن من جديد، ونفاضل بين من نريد، ويقبل بما نريد!
أمّا من لا يرضى، أو يتصاغر، فهو جبان مرتدّ مخرّب خائن!
البسمة في وجوههم في وقتها، ربّما كانت تكفي، التلويحة تعني لهم الكثير؛ أمّا التعزية والمواساة والمشاركة في أوقاتهم لا أوقاتنا، فمن الممكن أن تعوِّض وترمِّم وتسامِح.
في كلّ منّا قدر من الخير؛ فهل عملنا (ونعمل) على استخراجه أو استدراجه أو إنمائه وإفاضته؟!
في كلّ منّا إنسان؛ فهل تنبّهنا إليه وكرّمناه وعمّمناه؟!
أم كنّا مشغولين بأنفسنا، وبمن يؤمّن لنا استمراريّتنا، ونتعلّق به، يشدّنا إلى (فوق)؛ فإذا ما انقطعت (حبال الوصل)، نظرنا إليهم (تحت)!
الآخر قد يكون نحن، وما أغفلناه منّا، وما راكمناه وكتمناه فينا، وصَمَمْنا عن نفثاته ونبضه؛ فحين نعود إلى استنهاضه، أو الاستنجاد به، يكون قد اضمحلّ أو تماوت!
حينئذ لا يجدي التبكيت، ولا ينفع الندم؛ لأنّ الإسراع في الدفن (وقد صار أمنية وحظوة)، يكون آخر ما تبقّى لنا من إكرام، إذا ما وجدنا من يمكن أن يقوم به!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد ع 9 ك2 وشباط
تاريخ النشر: 2016-02-29