تختلف الآراء فيما إذا كان مفيداً أن تصارح مريض الداء العضال بحقيقة مرضه، ودرجة استفحاله، وإمكانيّة البقاء على قيد الحياة أطول فترة ممكنة، وإلى أيّ حدّ تساعد الطمأنَة المبالَغ بها، وإشاعة الأمل الكاذب، في تغيير مسار المرض المعروف أو المفترض؛ ما يجعله يتراجع أو يخفّ، أو يمدّد إقامته البغيضة، قبل أن يُقدِمَ على ضربته القاتلة..
وليس هناك من يستطيع أن يقرّر، فيما إذا كان ذلك أفضل من الإفصاح له بأنّه في خطر حقيقيّ وشيك، أو من الإقرار بأنْ لا سبيل أمام القائمين على حالته، إلا بالموت الرحيم، الذي لا تقرّه غالبيّة الجهات التشريعيّة الرسميّة، وجميع الأديان؛ حتى لو أوصى المريض بذلك، قبل أن يعيا عن القول والتصريح؛ فقد يتدخّل القدر، الذي لا نعرف عن سيرورته ولا نواياه شيئاً، فيغيّر كلّ شيء، من دون دليل، أو إشارة. ولهذا.. فقد لا يقتنع بك المريض ولا بكلامك؛ لأنّ هناك من هو وما هو أوسع من مداركك، وأقوى من تكهّناتك، وعِلمِك أيضاً!
مثل هذا الأمر، الذي يصادَف لدى الكائن العاقل في حالات عديدة، ويهمّ شخصاً بعينه، وبضعة أشخاص آخرين في محيطه، لا يمكن تطبيقه في حالات أخرى؛ على الرغم من أنّها مصيرية أيضاً؛ لكنها؛ بل لأنّها هنا تعني شرائح واسعة من الناس، ومستويات معيشتهم وتطوّرهم وبقائهم، أو استمرارهم من خلال ذريّتهم وارتقائهم في سلّم الحضارة والحياة الكريمة.
والمقصود هنا حال الإدارات العاجزة عن العطاء المُجدي، والتفاعل الحقيقيّ مع متطلّبات الحياة والتقدّم ومستجدّات ذلك؛ فلا يصحّ أن نؤمّل الناس بما لا وجود له، ولا أن نمتدح مواقع قرارات فاشلة، ولا مراكز إنتاج معطَّلة، ولا إجراءات صوريّة إعلاميّة لا أساس متيناً لها على الأرض، ولا تحرّكات محمومة بلا بوصلة ولا مسوّغ؛ إذ إنّ ذلك سيقود إلى يأس مضاعَف، وخيبة ذات ارتدادات أخطر ممّا هو في الواقع من قصور وتبلّد وشلل..
والأنكى من ذلك، أن نقول، ومن موقع المسؤوليّة، إن الأداء غير مُرْضٍ، وإنّ هناك نواتج غير مريحة، من دون أن نقوم بأيّ إجراء، يؤدّي إلى تحسين ظروف العمل، وتجديد عناصره؛ بحجّة الحفاظ على استقرار موهوم؛ لأنّ من أهمّ عوامل الاستقرار الرضا عن الأداء، أو القبول بما يؤدَّى.. من دون أن ننسى أنّ إبقاء الحال على ما هو عليه، سيقلّل من حوافز القائمين على رؤوس أعمالهم –أو رؤوسنا-لتغيير سلوكهم وإبداء نشاط أكبر؛ لأنّهم باقون! وسيترك، لدى الآخرين الجادّين المخلصين المنتظرين حراكاً إصلاحيّاً، إحباطاً يقلّل من حماستهم؛ فكلامهم في الهواء، وصراخهم أمامه جدران صمّاء! فينسحبون من السباق الذي خسروه، قبل أن يبدأ؛ أما أصحاب النوايا المصلحيّة، التي تُماثل ما هو موجود، الذين لهم حظّ في أن يحلّوا مكان الموجودين، ولهم نصيب في ما يمكن أن يستغلّوه إذا ما قُدّر لهم ذلك، فقد يُسقط في أيديهم، ويزداد تشويشهم وتتواتر قلقلتهم، وقد يعقدون صفقات مع “القائمين عليها”، تفيد الجانبين، وتُسكت هؤلاء عن القول بالتغيير؛ أيّ تغيير! وفي هذا خسارات وفواقد، ونزيف داخليّ قاتل، لا يُراد التأكّد من وجوده، ولا تتوافر النوايا السليمة، ولا فائدة من ذلك..
وإذا ما تأخّر التصرّف المُنجي عن الوقت المناسب، وتردّد الفريق الطبّي في اتّخاذ القرار الحاسم؛ الذي يمكن أن يكون مؤلماً، يمكن أن يصبح بعد حين من دون جدوى؛ لأنّ ما كان سليماً من الأعضاء قد أصابته العلّة، وما كان يمكن إنقاذه بيسر وسرعة، بات متمكّناً من المكان المحصّن فيه؛ تكلَّس، أو تعفَّن أو تعنّد، وغدا غيرَ قابل للتفاعل مع الأدوية، وغير قابل للعلاج، وقد لا تفيد عمليّة الاستئصال، ولا تصلح الزراعة في بيئة معتلّة. حينئذ نأتي، ونحن بكامل قوانا العقليّة، وبعواطفنا الجيّاشة، وأسفنا البالغ، فنقول بصوت واثق، وبلا إحساس بالمسؤوليّة، ولا شعور بالذنب: نجحت العمليّة، لكن المريض مات؛ فالأعمار بيد الله!!
***
الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: فارس العرب ع آذار ونيسان 202
تاريخ النشر: 2015-05-01