الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموارد ع 14
تاريخ النشر: 2017-03-01
رابط النص الأصلي: 

إذا كان للمتحدّث من يسمعه؛ مستسيغاً مستزيداً، أو مضطرّاً ملولاً، فإنّ هناك من يُثار بمنظر الصامت، ويحار في موقفه، أحياناً كثيرة.
وقد تضطرّ إلى الصمت؛ إذ لا تجد فرصة للحديث؛ لأنّ هناك من يستهلكون الوقت كلّه في الكلام، ولا يتركون مجالاً لأحد! لكنّك، في أحيان أخرى، قد تقصد أن تلتزم الصمت، لتستمع إلى ما يقال، وتعرف ما يدور من أحاديث؛ فإذا كان الكلام مفيداً، استمرأت وتابعت الإنصات، ففي الإصغاء فوائد عديدة: زيادة في المعلومات والمعارف، وتعرّف إلى أفكار آخرين، ومواقفهم، فتصبح لديك إمكانيّة أكثر مناسبة للدخول في الحديث، إذا كان لديك ما يُغْني، أو رغبت أن تتساءل، في وقت تختاره، بعد أن صار الموضوع أكثر جلاء، وبات الحاضرون أو معظمهم مكشوفين بالنسبة إليك؛ وربّما تستمرّ في الصمت لعدم الجدوى؛ فما يثار ليس مهمّاً، ولا يهمّك، والمستوى لا يشجّع، والجوّ متوتّر، والآراء متشنّجة، والأصوات حادّة..
وفي الإصغاء فوائد أخرى؛ فقد تعجب بأداء المتحدّث، وطريقة تقديمه لأفكاره، والإحساس بثقته وقربه؛ فتتمثّله؛ وقد تنفر من فوقيّته ونبرته، أو تردّده وضعفه، فتتجنّبها؛ كما تعتاد على سماع رأي الآخرين، ورصد مواقفهم، وتقدّر أنّ لهم دوراً وحضوراً. ومن الطبيعيّ والمأمول أن يكون لك دور أيضاً، فتستعدّ لذلك، محاولاً الإفهام والإقناع، لا التلقين والفرض؛ وتعتاد المشاركة في الحوار والمناقشة، والعطاء والأخذ، لا الجدل العقيم، والتمترس في مقولة وشعار وموقف.. والأهمّ أن تسعى إلى أن يكون لك صوتك الخاص، ونبرتك المميّزة، وحضورك الذي ينتظره الآخرون، أو يطلبونه، بدل أن تتسوّل منبراً، أو تفرض ظهوراً، قد لا يتكرّر بسهولة؛ فلا كبير فائدة من صوت وحيد بلا مستمعين حقيقيّين، ووقع وحيد بلا صدى محبّب، ورأي متفرّد بلا ردّ.
وليس مناسباً أن يكون السكوت شروداً، أو استهتاراً بالموجودين، إلّا إذا كان مقصوداً، وهو يشكّل موقفاً أيضاً من الحديث والمتحدّث؛ كما قد يكون الدخول في أيّ كلام مطلوباً؛ لكسر الصمت المهيمن، ولأداء الواجب أمام زائر ليست من روابط مهمّة تجمعه بالمضيف، وتأخذ موضوعات عامّة متن الحديث؛ كالطقس وتبدّلاته، والحوادث والوقائع الراهنة..
وإذا كان “الساكت عن الحقّ شيطاناً أخرس”؛ فإنّ في السكوت فضيلة الإصغاء إلى أصوات الحياة، الطبيعة وعناصرها وكائناتها البشريّة والحيوانيّة والنباتيّة، التي لا تتوقّف؛ كلاماً، وغناء، وثغاء، وزقزقة، ودبيباً، وحفيفاً، وانسراب جدول، ودفق ينبوع، ووقع مطر… وليس كلّ الأصوات جميلة، ولا كلّ الإيقاعات محبّبة، لكنّ وجودها يُفيد، ويثري، ويشي، وينبئ، ويؤمّل، ويغبط، ويواسي، وقد يُخيف ويخيّب ويحزن ويصيب بالكآبة والقنوط.
وفي الصمت تأمّل وتبصّر وتفكّر، وقد يكون فيه عجز وقصور؛ وفي السكوت راحة أو غصّة، وفي الإصغاء تنبّه وتساؤل وتقرّ…
وفي إصغاء الوحدة فرصة للاستماع إلى حديث النفس، التي قد لا تجد متّسعاً من الوقت، لإيلاء نجواها وشكواها الاهتمام المطلوب.
وقد يكون الصمت أبلغ من أيّ كلام، مع ملامح وحركات معبّرة، طبيعيّة أو مفتعلة..
كما قد يكون في السكوت، أحياناً، حفظ لماء الوجه؛ فقد تختلف نظرتك إلى من كنت تظنّ أنّ لديه إمكانيّات مقدّرة، فتكتشف ضحالته وشحّه؛ سواء بمقدرته على التعبير، إن كان لديه ما يقول، أو بما يشغله ويهمّه!
ومن المؤكّد أنّ الصمت لن يكون مناسباً في الوقت، الذي يجب القول فيه؛ كما لا يمكن الركون إلى الإصغاء إلى ثرثرة ونشاز وضجيج..
ومن الناس من لا يستطيع السكوت طويلاً؛ فهو يخاف الصمت، أو يضيق به، فيتحدّث إلى من يقصده، أو يلقاه، أو إلى نفسه، أو كائنات أخرى، لا تحسن الكلام، أو التصويت، أو يخاطب عناصر وأشياء لا أصوات لها ولا حركة، وقد يتوهّم من يسمعه، أو يستحضر من يكلّمه، حبيباً أو خصماً؛ ليقول في حقّه ما يريد، وقد يفعل أيضاً..
وبعض الناس يحبّون الوحدة، ويذهبون إلى أماكن، تؤمّن لهم ذلك؛ فيريحون آذانهم وأعصابهم وأحاسيسهم، وقد يتخيّرون ما يودّون الاستماع إليه، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلاً..
فإذا كان الكلام من فضّة…
***

اترك رداً