قد يبدو من النافل القول إنّ الإدارات الثقافيّة تختلف عن أيّ إدارات أخرى، وإن كانت تتّفق معها في أهمّيّة القائمين بها جدّيّة ومتابعة، وفهماً لطبيعة الإدارة وعملها وعناصرها،
وأداءً يوظّف الإمكانيّات التي تختلف من شخص إلى آخر، ومن ظرف إلى سواه، كما تؤمّن الخبرة والتخصّص في الإدارة والمجال الذي تعمل فيه فرصة أكبر للنجاح والتميّز والإقناع، ولا يمكن إغفال الميزات الشخصية والسمات الفرديّة والسمعة والسلوك..
في الإدارة الثقافية ثمّة جدل بين أن يكون المسؤول الثقافي مثقّفاً – على الرّغم من عدم وجود تعريف باتّ لهذا المثقف – أو لا يكون.
ولكن؛ هل جميع أصحاب النتاجات الثقافية مثقّفون؟!
مؤلف الكتب، المترجم، الشاعر، القاصّ، الفنّان التشكيلي، العازف، المسرحي.. وهل يفيد عدد المؤلّفات والنتاجات والمعارض والدعوات.. في تأكيد هذه الصفة أو التقليل من جدّيتها؟!
وهل انتساب أيّ من هؤلاء إلى نقابة يمنحهم هذه الميزة الثقافية، بصرف النظر عن أيّ مسألة أخرى؟!
وهل يخوّلهم فوز في انتخابات، أو تمنحهم علاقات وصداقات ومصالح الحقَّ في تبؤ موقع قياديّ ثقافيّ؟!
هناك جانب آخر من العمل الثقافي لا يخضع لانتخابات ولا لانتساب؛ وهو جانب مهمّ أيضاً، ومؤثّر.. ولاينتهي الحديث – وربّما الجدل – في ضرورة أن يكون في هذه المواقع الثقافيّة: (مديريات ثقافية، مراكز ثقافية، دور ثقافية، مكتبات، مؤسّسات سينمائية ومسرحية..) مثقّفون – وفق الكلام الذي سبق – أو ليس من الضروري ذلك، ويمكن أن يكونوا موظّفين يتقدّمون في مراتبهم، حتّى يصبح من حقّهم أن يتسلّموا مثل هذه المسؤوليات، ولا يمكن أن ننسى المؤثّرات أو (المقبّلات) التي قد ترافق التعيين أيّ تعيين، وفي أيّ موقع! وللحقّ، أو ما نراه كذلك، فإنّ بطاقة انتساب ثقافيّة، لا تكفي للنجاح في أداء مهمّة ثقافية في أيّ من المجالين.
وتعلّمنا التجارب أنّ بعض المسؤولين الثقافيين (المثقّفين) يكون عائقاً في وجه النشاط الحقيقي للثقافة، ويسعى إلى أن يجعل إدارته أو نقابته مزرعة خاصة، على الآخرين جميعاً أن يكونوا تحت إمرته، أو أن يعملوا وفق رؤيته ومصالحه.. التي قد تلغي الكثيرين الذين لاينصاعون، او تُعثِرهُم وتُشوِّهُهم، وتُحبِطُهم، لأنّ وجودهم، مجرّد وجودهم، يُظهر ضآلة هذا البعض، وقصوره، وقد يقف هذا المسؤول (المثقّف) في وجه المواهب التي قد تضيء جانباً لا يجد فيه مكاناً له، ويقدّم عليهم من فيهم من الضحالة والغثّ ما يجعل شحّه بارزاً، و«سعيه مشكوراً»!!
وهناك من ليسوا من الكتّاب ولا المبدعين.. لكنّ في استطاعتهم تأمين الساحات التي تصول فيها الثقافة، وتتناهض، والدروب التي يتقافز فيها المثقّفون، والنوافذ والكوى والشرفات التي يمكن أن تأتلق بإشعاعات المثقّفين الحقيقيين، وتنير الجوانب والأركان.. السبب في ذلك أن لديهم موهبةَ احترام القدرات والإمكانيات، وأريحيةَ التعامل مع أصحاب الرؤى والأفكار والإبداعات، حتّى لو كانت لديهم مزاجيات ونزوات.. (وهذا ليس انتقاصاً، وليس غريباً على الموهوبين)!
السبب أيضاً أنّ لديه هاجسَ الثقافة، والحضورَ الحيوي الإيجابيّ، والخصال الإنسانية؛ مثلما تجد متابعاً، قارئاً، مرتاداً للنشاط الثقافي، ليس كاتباً ولا ناقداً ولا إعلامياً، ولا مسؤولاً حزبياً، ولانقابياً.. في الوقت الذي لا يقرأ بعض المثقّفين إلّا لأنفسهم، ولا يحضرون إلّا نشاطات يشاركون فيها!
أما إذا كان بين المثقّفين من يحملون الخصال الإيجابية هذه، ويقوم بالمهمّات الثقافية، فأعتقد أنّ الأمر سيكون مثاليّاً، أو أقرب إلى المثاليّ؛ لأنّ أجواء عمله وحركته ونشاطه بالتأكيد لن تكون مثالية!!
وليست الساحة خالية من أمثال هؤلاء؛ لكنّهم يحتاجون إلى من يكتشفهم، أو يتعرّف إليهم، ويمنحهم ثقته، ويكون من طينتهم؛ فقد لا يكون اختيار المثقّفين أنفسهم لمن يمثّلهم مناسباً، كما يمكن أن يكون اختيار الآخرين لمن يمثّل المثقّفين بعيداً كلّ البعد عن المُرتجى والمأمول!