يا للفنّ ما أنبله!
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل ونوس-
أيّة حياة تلك، التي لا يمكن تصوّرها، حين تكون بلا فنّ؟! وأيّة أوقات محدودة ببكاءين- بكاء منك وبكاء عليك- تُستهلك فيها وظيفة حياتيّة ممارسَة، وتتشابك فيها علاقات، وتتفاقم مشكلات، وتغتلي غرائز لا تُشبع، وتتبارز فيها عناصر مجرّدة لا ملاط يخفّف مفاصلها، ولا عطر، ولا أصداء ماتعة؟!
وكيف نتعامل مع شهواتنا المكبوتة، وعواطفنا المكتومة، ورغباتنا المحجوبة؛ تلك التي قد تخجل منها؟! وكيف نعبّر عنها؟! هذا إذا ما اعترفنا بها؛ فقد ننكرها، ونلوم أنفسنا على ظهور أيّ منها؛ كأنّها عورات مخزيات، ونتّهم- ونحن نغرف منها- الشياطين والأمراض والظروف الضاغطة باستفزازها واستشرائها، لكنّ الفنّ يحنّ علينا، ويشفع لها؛ فيشرعها ويشرعنها؛ بالاعتراف بها، وإطلاقها، والتعايش معها، وتمثّلها، والقبول بانتمائها إلينا، أو تعالقنا الوشيج معها؛ فهل هذا أمر يسير أو قليل؟!
وكيف- من دون فنّ- نضبط انفعالاتنا، أو نجريها، ونجاريها؛ حيث يجب، أو يمكن، أو يفترض؛ قصداً أو عفواً، مكاناً وزماناً؛ غير مكتئبين لاستثارتها، وغير منبتّين عنها، كافرين بها، مستائين منها؟!
وماذا عن الخيال؟! وماذا حول الأماني؟! ومن للهواجس والقنوط والقلق والتساؤلات؟!
ومن أقرب إلى الفنّ من نشر الطموحات، وتحقيقها، وعرض الخيبات، وتفريغ الضغوطات، وتقويم الانحرافات، أو ترسيمها؟!
ومَن أجدى من الفنّ في المساعدة على السعي إلى تبوّؤ القمم، وتجشّم العناء، وحثّ الهمم، وإيقاد الأنوار، وبعثرة الظلمات، وتشذيب النفس، وترميم الفواقد، والتعويض عمّا كان، ويكون؛ حتّى إن كان لا يعوّض؟!
وكيف نحصل على النشوة من بين الخرائب، ومن دون الرغائب، ومن بعد النوائب؟!
وكيف أَلبَسُ تاج العرش متى شاءت الموهبة، وأُلبِسُه من أشاء، وأنا ابن العامّة، ولست من السلالة الحاكمة؟! وكيف أرافق النّهِم البَطين، وأنا هيكل محروم؟! وكيف أسائل الأسياد والنافذين، وأنا غير محميّ الأصل والظهر والأمام؟! وكيف يمكنني أن أنْفَذ من جدران كتيمة، وأبواب مدعّمة، مغلقة، وأنتهك أحيازاً مسوّرة مزمنة أو مستجدّة، وأتجوّل في رياض مشوّكة الكوّات، وأقتحم قلاعاً محصّنة، وأبراجاً متعالية، وأنا أعزل إلّا من قلم أو ريشة أو توق؟!
وكيف نتظلّم، ونتشاكى، ونتلاوم، من دون الفنّ؟! بل كيف نردّ الظلم، أو نتفهّمه، وقد نسامح بوعي، أو لا وعي؛ وقد نقاومه بالفنّ، أو ندعو إلى مقاومته، ونحضّ عليها، وقد لا نستطيع الصبر والسكوت؛ فنواجه، من دون شتم ودم، وقد نخسر في الفنّ، فنحسّ بعمق أثر الخسارة، ومعناها، فنسعى في الواقع، كيلا نخسر، وكيلا يختصم آخرون، وقد ننتقم من دون أذى، أو يتشفّى سوانا، فننتشي، ويكتفي؛ فلا نقوم بهذا الفعل المؤذي لنا ولأندادنا في الحياة، ونربح أنفسنا والآخرين.
وبالفنّ؛ وهل من متنفّس أبعد مدى، وأسعد لحظات، سواه؟! قد نتمثّل فعلاً، لا نقدر على اقترافه، ونؤدّي دوراً، لا نجرؤ على مقاربته؛ فنجرّب الخلق؛ فنفرح، ونتعالى، وقد نندم على ما جرى؛ وفي الحالين، يمكن أن نتجاوز الهيبة والوقار والمقام؛ فنغبط، ونزهو، أو نندم على فعلتنا، ونحاول التعويض، أو العقاب! وربّما نكفّ عن ذلك كلّه، ونزهد، ونرضى! ونستطيع مع الفنّ أن نُمرض، ونميت، ونحيي، ونكرّر الأجيال أو نقلّبها، ونبتني علاقات، ونزيّن المصالح، ونرسم الدروب والحظوظ والمصائر، ونحدّد الجزاء والحساب، وندعو الشهود، ونحيل إلى جنّة أو نار، نخترعهما، وقد نترك الكائنات ما بينهما سكارى، وما هم بسكارى، وقد نبدّل جلوداً، أو نصفح، ونسامح، ونعفو؛ داعين إلى القيام بالمثل!
وماذا نفعل مع الموت، الذي نفرّ منه، ولا منجى؟! ونمارس طقوسنا المتوارثة تجاهه، وتجاه مقدّر الأحوال، وقابض الأرواح؛ من دون أن نكون ضامنين لأمر؛ بل نتوسّل، ونرجو، ونأمل؛ أمّا في الفنّ وبالفنّ، فنستطيع أن نخلق طقوساً أخرى، متّصلة بما نعرف، ونعيش، أو منبتّة، وقد نفعّلها، ونجعلها حيويّة وقمينة بما نريد، ونتمنّى! نقدّم القرابين الوافرة، والأعطيات السخيّة؛ من دون أن نقسو على الكائنات العاقلة وغير العاقلة، ولا نظلمها بما ليس لنا به حقّ، ولا لها به طاقة، ولا لديها إزاءه حيلة. وقد نتمرّد على كلّ تلك القناعات أو الأوهام، أو نتخلّى عن الاعتقاد بها، أو الإيمان بوجوبها وجدواها، أو نجعل ما يشبهنا من كائنات، ويقاربنا في الشكل أو المهمّة، أو المسؤوليّة، يتجنّبها، ويتجاوزها؛ فلا يصاب بأذى، ولا “يلطشه” الجنّ، ولا تصيبه الكائنات الخفيّة بشرورها، ولا تسمّم أوقاته بنفثاتها؛ كما قد لا تفعل الكائنات العلنيّة المعروفة المُهابة والنافذة، القائمة بالطقوس وعليها، القادرة على ما لا نستطيع استكناهه، أو لا نحاول التفكير في ذلك في الواقع؛ استكانة وقنوطاً وخوفاً؛ وقد لا نتجرّأ على ذلك؛ صراحة في الفنّ أيضاً، وننقل إليه تخوّفنا، وقد نتحايل على ذلك، ونجرّد، ونتجرّد، ونتفنّن؛ وقد قلتُ ذات زمن: النصّ الذي يضبطه الرقيب، ويمنعه، او يحاسب عليه، ضعيف؛ ربّما! وهناك أدوات أخرى سوى النصّ والمباشرة؛ رسماً أو لحناً، أو تشكيلاً، أو عرضاً…
ولكنّنا، قد نظلم الفنّ، ومتمثّليه، ومتلقّيه، ومتوسّليه؛ فنتعامل فيه وحوله بملكاتنا الأرضيّة، وأمراضنا، ونزواتنا، وموروثاتنا، ومورّثاتنا؛ فيعتلّ الفنّ أيضاً، ويهِن؛ وهو القادر القويّ أملاً ورجاء، وقد نسكت حتّى عن القول المباح؛ فيعجز الفنّ عن السموّ، الذي يتوسّمه لنا، ونتوسّمه فيه؛ وهو الراقي، ويسقط؛ وهو الجليل، ويتشوّه؛ وهو الجميل؛ حتّى حين يتحدّث عن القبح؛ ويتعب؛ وهو المريح؛ حتّى وهو يُغرق متناوله في اضطراب عناصر، وقلق كائنات!
ليت الفنّ يَخرج عن أرزاقنا المقسومة، وقناعاتنا الباتّة، ويمتح من لا وعينا، ما هو غير مبتوت؛ ربّما، ويحتاج إلى تساؤل وتفكير وتأمّل ومقاربة وتحليل!
ليس الفنّ نوافل وترضيات واستعراضات وادّعاءات؛ هذا الذي قد تفرز معناه كثرةُ المشبّبين بليلى من دون قلوب؛ فلا تجوز لهم؛ أعرافاً وأصولاً، وتزاحم الراغبين بوصالها؛ هي التي لا تعرفهم؛ لكنّ هناك من يصدّق، وتنطلي عليه الحيلة، ويتشبّه بهم، ويقلّدهم؛ فتكثر الأصنام، ويزداد المتباكون على المنصّة، ويتكاثر الباكون من النظّارة والمتلقّين الآخرين من دون داع أو جدوى!
هل يجوز التساؤل، إن كان ما يزال لسؤال الفنّ وجدواه ما يسوّغ، بعد كلّ هذه الإنجازات والمخلّدات والمعجزات في التعبير والترويج والترميز؛ ابتداء بالرسم على جدران الكهوف، مروراً بالنقش في المنحوتات، والتشكيل في المناسبات المتنوّعة، والأناشيد في المعارك والحروب، والغناء في المواسم، والرقص في الأفراح، والأتراح؛ ربّما، والتفخيم في التقديس، والتنويع والترف في الدفن، والتعمير والاستئذان؛ وصولاً إلى التمويه في العقيدة، والتورية في الإيمان. وهل يحقّ ذلك، بعد كلّ ما يقام من عروض، ومناسبات، وما يقدّم من جوائز، وما ينشر، ويذاع، ويرسل، ويقتبس، ويكرّم، ويمتدح؟!
ولكن.. أليست ما تزال لسؤال الفنّ موجبات؛ بعد كلّ هذا الخروج عن الملَكات والسياقات والقدوات والمشاعر والطموحات والآمال؟! بعد استغلال المواهب، وإهدار الإمكانيّات، وتشويه المشاهد، والتوحّش في التقتيل والترويع والتضليل والتبخيس…
يا للفنّ؛ ما أنبله، وما أكرمه، وما أعذبه، وما أعدله… لم يختصّ بذي لون وهيكل ومقام وكيان، ولم يترك لمحتار يأساً، ولم يبخل على متعطّش بكأس، ولم يقصّر في واجب، ولم يقتصر على جانب وحال واحتمال…
يا للفنّ؛ يُشاغل، ويراود، ويشكّك، ويلاحق، ويفضح، ويتابع، ويسابق، ويساوق…
إنّه الهنيّ العليّ المنفلت من كلّ قيد، المنطلق من كلّ سمت وفي أيّ سمت، الغنيّ عن كلّ منصب ومقام ونفوذ؛ عابر اللغات والهيئات والقامات والسمات، الدفيء المدفِئ في عزّ البرد، حتّى وهو عارٍ، الحادّ، الليّن، المغني اللبيب؛ حتّى من دون كلام، المُرضي المُقنع من دون قوانين وأسباب، لا تكفيه الأرض وما عليها، ولا توقفه السماء وما فيها وما بعدها.
إنّه الفنّ؛ الوجود المتصالح مع الموجود، القرين المصحّي والمضحّي، والطيف الموشّي، والظلّ المضيء، والطاقة المتجاوزة للإمكانيّة، والصنو المجلّي المشروع المسوّغ الموائم المواسي للإنسانيّة.
***
غسان كامل ونوس