يا ثقيل الظل!
إذا لم تفق حتى اليوم، متى ستفيق؟!
إذا لم تفتح عينيك على مشاهد الخراب والدمار والأرض اليباب، ولم تتفتح مساماتك على ما تُخلّفه نفثات الغادرين في الخضرة القَدَريّة والزهرات المواسمية، ولم تتحسّس استشعاراتُك روائح الحريق المعمّم وإفرازات التسميم المنظّم، ولم تلحظ تطلّعاتك ومنبّهاتك ملامحَ القلق ومعالم الأرق في جباه الناس، وعثرات الطفولة وخوف الآتي.. متى ستستيقظ؟!
إذا لم تتبصّر ما أحدثتْه رياحٌ تتوسّلها في رياضٍ أخرى، وما فعلتْه حوافرُ تستدعيها في مفازات معروفة، ومعابر مكشوفة، ولم تقرأ تصرفات الجهات القادرة حيال حلفائها في الماضي وكلّ وقت، ولم تستوعبْ مجريات الأحداث التاريخية في المنطقة والعالم، وأبعاد الاهتمام المحموم والتحرك المسعور في مرابعنا الأمامية، وخفايا الاتصالات والمرابطة في حدائقنا الخلفية.. ومفرزات التواصل المعلن والتعامل المستور مع أطراف وفصائل.. ولم تتبيّن التحولات في المواقف والتبدلات في جهة الفوّهات.. فما معنى حضورك ةدةرك ووجودك؟!
هل الصمم يحميك من أنين المحزونين، وصراخ المفجوعين، وحشرجة المكلومين؟! والمكابرة تحرمك من سماع نداء المحتاجين، ودعاء الآملين، ورجاء الصابرين..؟!
أم العناد يبعدك عن رؤية الناظرين بعتب وخيبة، ويغرّبك عن كلمات تعزّي، وعبرات تواسي؟! والجحود يدفعك بعيداً عن لمسة حنان، وخطوة وفاء، ولمّة دفء..؟!
لكنّ أسئلة لا يمكنك أن تتجاهلها على بداهتها، لأنّها أساسية، وتساؤلات لا تستطيع التغافل عنها على مرارتها، لأنّها صميمية:
ماذا حول إعثار التقدم والنمو في البلد، وتعطيل الحياة العامة والخاصة، وتقطيعِ السبل، وتضبيب المشاهد، وتفتيت الأسر، وتعنيف المجتمع، وإثارة الفتن والغرائز، وتعويم الأنانية والخلاص الفردي والسلبية، وترويجِ المخالفة للحصول على مردود ملحّ، أو تعوّدِ الاحتيال لتأمين مادة لازمة للناس مقابل ربحٍ مجزٍ، واستسهالِ الخروج على القانون، لأنّ عفواً متوقعاً صدر وسيصدر، ويطال جرائر أفظع، وماذا عن تخفيفِ نسبة القوى الشابة في التجمعات السكنية لأسباب متعددة: الاستدعاء لحمل السلاح المشروع دفاعاً عن كيان الدولة ورصيد المجتمع، والإغراء بالسلاح والمال وأشياء أخرى للمشاركة في أعمال غير مشروعة، النزوح في داخل الوطن، والذهاب إلى الخارج القريب والبعيد؟!
وما شعورك إزاء الذلّ الذي يلحق بالإنسان السوري على الحدود، وفي المخيمات، ومناطق التوزّع والتجمّع والتهرّب، وفي مواقع التفلّت والتحلّل والتمسّح والتورّط والمساومة والخيانة؟!
ماذا حول اغتيال الكفاءات والخبرات النوعية المدنية والعسكرية؟!
وماذا يعني التدمير المنظم للمؤسسات العامة وخاصة القضائية والتعليمية والخدمية؟!
ومن المستفيد من إفراغ البلد من القوت والوقود، وإغراقه في الظلام والفوضى؟!
ومن المعنيّ بإشغال القوى المسؤولة عن الأمن والأمان والسيادة والدفاع عن الحدود والوجود؟!
ببساطة أكثر، ووجع أكبر:
من المستفيد من إضعاف البلد، وتبديد المقدرات، وإفقار الناس، وتبدّل الأولويات، وتحوّل الاهتمامات، وتعرية النفوس، وإهانة القيم، ووهن مكارم الأخلاق؟!
وإذا كانت غشاوة في البداية، ولم يكن في البال أن الأمور يمكن أن تصل إلى هذه الموحلة، فهل بقي من ستر يغطي، وأمر خفيّ؟! وما فائدة وصولك والناس قد رحلوا؟! وما الحكمة في الإصرار على عدم الرؤية، وعدم الالتفات أو التلفّت؟! ولماذا لا تصغي إلى ما تقول، ما زلت نقول، وقد صار ناشزاً، وفاقداً للنضارة والمعنى، وصارت باقة الورد حطباً، واللهفة تجاهلاً واكتئاباً؟!
ألم تَستدركْ غاياتِ القادمين من بقاع شتى؟! ألم تدرك ما يعلنون وما يحكمون وما يشرّعون، والحدود التي يقيمون؟!
وهل يرضيك تنصيب الزعماء وتوزيع المسؤوليات بعمليات مدبّرة, وتعمية ساذجة؟! إلا إذا كنت تنتظر مثل هذه التعددية الحضارية؟!
ألم تشغلك الحركات المريبة القريبة للأعداء التاريخيين لبلدك وشعبك وأشقائك، والإنسانية جمعاء؟! ألم تستفزّك التحركات الغريبة والتداخلات المقلقة في مناطق التخوم المباشرة مع العدو الصريح المتربص؟!
ألم تهتزّ للمنايا تتوزّع الناس بلؤم انفجار مزدوج، واقتناصٍ فاجر، وانتحارٍ قاتلٍ بين المنبر والمحراب؟!
ألم تتساءل عن مكانك ودورك في ما يجري من مآس، وما سيأتي من فواجع؟!
وهل الأمر يحتمل المزيد للبرهان، أم لإشفاء الغليل من دماء الأبرياء وأرصدتهم العمرية والمادية والنفسية؟!
أما آن لك أن تسأل: لِمَ وإلامَ؟! متى، وكيف يكون الخلاص؟!
هل الوعي بهذا يتطلب شهادة وتجربة وثقافة وخبرة، أم عقلاً ووطنية وإنسانية؟!
إذا لم تعِ بعدُ، أو تحسّ أو تفكّر؛ إذا لم تراجع، وتندم؛
إذا لم تفق، يا ثقيل الظل، بعد كلّ ذلك؛ فلا أفقتَ ولا وعيتَ!!
***
غسان كامل ونوس