…وماذا عن الرأي؟!
ملحق الثورة الثقافيّ-
غسان كامل وتوس-
يدرج على ألسنة المتحدّثين بالأفكار المثيرة، تعبير مهمّ، وعنوان جذّاب، يصحّ شعاراً للحوار، ومسوّغاً له، وتمهيداً ومدخلاً له ومخرجاً؛ لأنّه منطقيّ ولا بدّ منه، ولا بديل عنه، في أيّ مشاركة، او تعاون، أو تلاق على الخير والإنجاز؛ وهو مطلب حقّ في كلّ زمان ومكان؛ إنّه: احترام الرأي الآخر؛ بصرف النظر عن كيفيّة تطبيق هذا الاحترام وطريقته، ومن دون التدقيق في الاقتناع به، أو العمل بمحتواه، حتّى من قبل المنادين به؛ والتساؤل حول هذا الاقتناع أو تلك الممارسة، مشروع ومطروح من خلال الوقائع، التي تثبت صدق هذا من عدمه، ما يقودنا بدوره إلى موضوع، يسبق هذا الاحترام، وذاك الرأي الآخر؛ إنّه الرأي الذاتيّ! فهل لدى من يطالب بهذا الموقف تجاه الرأي الآخر، في أيّ موضوع أو قضيّة، رأي مستقلّ واضح ناجز، يمكن أن يشكّل علامة جليّة، وأساساً للمناقشة، ومحاولة للإقناع به، ويُتّخذ على أساسه موقف بيّن، يمكن تثبيته وإعلانه، والاعتداد به؟! وإذا لم يكن لدينا مثل هذا الرأي؛ كيف يمكننا الحديث عن حوار، وعن احترام، وعن رأي آخر؟!
ومثل هذه الحال قائمة وملاحظة، ويمكن استقراؤها أو تبيّنها من خلال أيّ لقاء عابر أو مقرّر، عفويّ، أو محضّر له، وفي ثنايا أيّ حديث يدور في قضايا مهمّة، أو مسائل وإجراءات عاديّة متكرّرة؛ فكثيراً ما يظهر هذا في التعامل في أثناء الالتقاء، وطريقة التحيّة، والجلوس، والشروع في موضوع ما؛ كما في أسلوب الحديث ووجهته وفحواه؛ فيقال مثلاً: سمعت أنّ، أو يقولون إنّ، أو قال فلان… ومن الطبيعيّ حينئذ أن يُسأل المتحدّث: وأنت ما ذا تقول؟! وما رأيك؟! فكيف تكون ردّة فعله، التي قد تظهر على ملامحه وتحرّكاته وعرضه؛ إن عبّر، ونبرته، وانسجام تعبيراته وترابطها، وصلاحيّة العوامل، وسلاسة السبيل، ومنطقيّة النتيجة، أو الخلاصة، أو الرأي.
ومفهوم أنّ بعض المسائل والأفكار والوقائع، يمكن أن تكون مستجدّة، أو مستحدثة، أو طارئة، أو غريبة، تحتاج إلى بحث أو وقفة أو نقاش للبتّ فيها، ويمكن أن تكون القضايا المطروحة قديمة، تقدّم بصيغة جديدة أو بمفهوم مختلف، أو بظروف مغايرة؛ نتيجة تحوّلات واكتشافات وطروحات وتفاعلات وعناصر، لم تكن موجودة، وهي تتطلّب مزيداً من الوقت والجهد والسعي للوصول إلى قناعات بشأنها؛ كلّ هذا صحيح ووارد ومفهوم، ويسوّغ كثيراً من التردّد والحيرة والغشاوة والانتظار؛ ولا سيّما أنّنا في عصر سريع الإيقاع في الخطو والقول والعرض والأداء والتنفيذ، وبعض هذا طبيعيّ وموضوعيّ، وبعضه الآخر مفتعل، ومفبرك، ومصنّع؛ لإحداث البلبلة في الأفكار، والقلق في النفوس، وإدخال الشكّ في النظر إلى أيّ شيء، حتّى يصبح المرء في دوار، عاجزاً عن إدراك السمت المناسب؛ كما أنّ غزارة المعلومات، وتسارع الأحداث والإجراءات، وتزايد الحاجات إلى ما قد لا يكفي، ولا تكفي الموارد لتأمينه، تدفع أيضاً إلى هذه المتاهة، التي قد تبدو بلا درب خلاص. ولكنّ الخطر يبقى قائماً في أن لا يكون لنا رأي، ومن ثمّ شخصيّة أو كيان، وربّما موقف يبنى عليه، وليس مقبولاً ولا معقولاً، أن ننتظر آراء الآخرين؛ لنتبنّاها، أو لنعارضها؛ ولا سيّما إذا كانوا نافذين، أو مؤثّرين، أو مهيمنين بأيّ سلطة وموقع وجهاز وإدارة، من دون أن يكون هذا كفيلاً بصواب ما يرتؤون، أو كافياً للأخذ بما يرون، أو يعلنون، أو ترديد أقوالهم كالببّغاوات، أو كالمأخوذين المستلبين التابعين بلا حول أو قوّة أو إرادة. والأخطر من هذا، إذا ما كنّا في موقع مسؤول، ينبغي أن يوجِّه، أو يأمر أو يقرّر، أو نكون مكلّفين بمهمّة، يترتّب على خلاصتها لدينا، تصرّف أو سلوك أو مشروع مكلف ومجهد ومصيريّ.. وحتّى في حياتنا العاديّة والعمليّة، في البيت، وفي أيّة مؤسّسة صغيرة أو كبيرة، تتنوّع مكوّناتها، وتختلف طباع أفرادها وإمكانيّاتهم، فإنّ من المفيد أن يكون لكلّ رأيه، يجاهر به، ويدافع عنه، ويُعرف به، من دون أن يعني هذا التشبّث به والتعصّب الأحمق له، وفرضه بالقوّة؛ لأنّ أيّة حركة مدروسة أو منتظرة، تتطلّب قيادة تبادر، وتيسّر، وترعى، وتحلّل، وتستنتج؛ وكلّما كانت الحركة نتاج مشورة ونقاش جادّ وهادئ وصريح ومسموع، مع عرض شفّاف للظروف والوقائع، كانت المحصّلة أسلم، والجدوى أكبر، ونسبة الصواب أكبر؛ فلا شكّ أنّ إمكانيّة ارتكاب الأخطاء واردة، والقرارات والآراء يمكن أن تكون قائمة على معلومات ليست دقيقة، ويمكن أن تكون القراءة خاطئة؛ فللناس طاقات ومستويات وظروف وضغوطات، تؤثّر بهذه الدرجة أو تلك. إنّ من الخطورة بمكان، أن نقدّم رأياً غير واثقين به، أو مقتنعين، من دون أن نشير إلى عدم اليقين هذا؛ كما أنّ من المعيب أن يكون أيّ منّا في مجموعة بشريّة كرقم مجرّد، أو كعنصر متحرّك في طريق مقدّر؛ أو كائن يمشي بالثقالة، والقوة الجاذبة أو النابذة؛ التي يمكن أن تأتي من بيئة أو عقيدة أو نفوذ، أو سلطة؛ لا يفكّر، ولا يُعتدّ بوجوده، ولا يُحسب حسابه، ولا يُطلب رأيه، ولا يشكّل كتلة أو حجماً أو شعاعاً، أو ظلّاً أو قيمة؛ فما معنى وجوده إذاً؟! وتزداد الهلاميّة، حين يكون للمرء أكثر من رأي جاهز في الموضوع نفسه، يقول كلّا منها في الجهة، التي يناسبها هذا الرأي، أو يرضيها؛ وقد يبدّل شخص رأيه، بين موقع وآخر، ومسؤوليّة وخارجها، وقد يقول ما هو متناقض في الجلسة ذاتها، والحوار عينه، وقد يأخذ رأياً من متحدّث آخر، أو يعارض رأي متحدّث آخر لمجرّد المناكفة أو الظهور، أو المشاركة في الحديث؛ فماذا يتبقّى من هذا الكائن في نظر من يرى، ويسمع؟! ومن الناس من يكون لهم رأي مسبق، وموقف مبتوت، فيجيّر الظروف والعناصر والتفاصيل لما يدعم رأيه؛ بدلاً من أن يفكّر في ما استجدّ أو تغيّر، وفي هذا قسر منبوذ، وعرض ممجوج، وسلوك منفّر؛ إذ يصعب الحوار معه، ولن يصل إلى نتيجة، وقد لا يستمع إلّا لمن هم في صفّه، وفي مدى تأثيره؛ ولا يعني هذا أنّ على المرء أن يغيّر رأيه، لدى كلّ تحوّل أو عارض؛ فهناك قضايا محقّة إنسانيّة ومصيريّة ووجوديّة ووطنيّة ومبدئيّة وأخلاقيّة، لا تتغيّر في جوهرها، وقد تتغيّر أدواتها، وأساليب صيانتها، وطرق التعبير عنها؛ فمن الطبيعيّ والضروريّ أن يتوقّف الإنسان عندها دائماً؛ يتمثّلها، ويدافع عنها، ويشرح معانيها وأبعادها، ويعمّمها بلغته الخاصّة وصياغته، التي يراها مناسبة، وهذا يتّصل بقدراته، وثقافته وعزيمته، وجرأته، وثقته؛ ومنذ الطفولة، يمكن أن يلاحظ هذا، حتّى في اللعب الجماعيّ العفويّ البريء، وفي أثناء التقسيم إلى فرق؛ فهناك من يقول: أنا مع مين؟! فيما يصرخ آخر: أنا من معي! وتجد- للأسف- من له رأي، قد يكون محترماً أو جادّاً على الأقلّ، ولكنّ في عرضه له، ودفاعه عنه، وعناده تجاهه، ما يسيء إليه، ويشوّهه، ويضعف حجّته، ويبدّد قوّته؛ كما لا يمكن قبول الوقوف طويلاً عند رأيٍ غير متماسك، ولا مسوَّغ ولا مسوَّق، وتمّ اتّخاذه لعدم جرأة صاحبه في الاقتناع المغاير، أو لعدم رضاه عن نتيجة الرأي المقابل، الذي قد يؤدّي إلى أن لا تصبّ نتائجه في صالحه، أو لا تؤمّن تحقيق مصالحه وغاياته. وهناك جهات أو أشخاص، يمكن أن يكونوا في مواقع مهمّة، ومنها للأسف ثقافيّة أو علميّة أو إعلاميّة، وفي مختلف المجالات، قد يطرحون مقولات أو نظريّات، أو يشيعون مصطلحات ومسمّيات وأخباراً؛ خدمة لمصالح آخرين، تسوّغ إجراء، أو تمهّد لمشروع، أو تضاف إلى ما يُطرح من شعارات مضلّلة، تبدو برّاقة، لكنّ لفحواها روائح كريهة!
ويجب ألّا نغفل، أنّ يمكن لبعض الآراء، إذا ما قيلت، أن تشوّش، أو تعكّر، أو تجرح، أو تنفّر؛ فلا بأس أن نتوخّى ذلك؛ من دون أن ندّعي سواها أو ما يعاكسها أو يعارضها، وسيكون من الأفضل أن تقال الآراء الجادّة الرصينة في المواقع والأوقات المناسبة؛ احتراماً لها وتقديراً وصيانة لها ولأصحابها، ولآخرين! كما يجب أن لا تتّخذ القضايا المهمّة موضوعات للسخرية والاستهزاء والتسخيف والتمييع، ويكون هذا في أحيان كثيرة مقصوداً ومدروساً، ويفترض الاهتمام بما يتوقّع من ردود الأفعال، أو الانعكاسات الممكنة، والوعي بما ستخلّفه من آثار ونتائج لدى الأشخاص والمجتمع.
وكثيراً ما تظهر نتيجة غياب الرأي الواثق في أثناء التعبير المكتوب أو المجسّد عنه؛ كالانتخابات من أجل أيّ أمر، وأيّ موضوع؛ من دون أن ندري، أو قد لا نهتمّ، بما لهذا التصرّف من انعكاسات واقعيّة حاضرة ومستقبليّة؛ كما أنّ غياب الرأي أو تلوّنه، أو ادّعاءه، لدى من يُدعون مثقّفين، يظهر فاقعاً وناشزاً، ويمكن أن يكون له مردود سلبيّ مضاعف للمجتمع والبلد والحياة، ربّما.
ولا بدّ من القول أخيراً، والحديث يطول في هذا، وربّما من نافل القول: نعم، يجب احترام الرأي الآخر، ولكنّ من واجب أيّ شخص أن يكون له رأي، “والرأي قبل شجاعة الشجعان”، ومن حقّه أن يعبّر عن رأيه، بما لا يسيء إلى آخر أو آخرين، ولا يؤدّي إلى إيذاء الأبرياء.
غسان كامل ونوس
***