هـــواجس التــحدي والــــيأس فــــي الاحتراق
لــلأديــب غسّـــان كــامــل ونـــّـوس
القصّة القصيرة تُصوِّر حدثاً محدَّداً ينطوي على حالة محدّدة، والسـّرد القصصي يحقـّق توازنه وفعاليته كلما تجرّد من الزّوائد والاستطرادات وكلّما أجاد الكاتب اختيار الشّخوص والحدث، أو الأحداث الضّروريّة للتـّعبير عن الحالة “الفكرة” التي هي هدف القصّة .
سُمـّـيت القصة القصيرة فن السّهل الممتنع ذلك أنها تبدو مُيسّرة وسهلة المراس، ولكنّ كتابتها تحتاج إلى خبرة وقدرة وترصّد لحالات ومفاصل جوهريّة وإلا فلن تكون قصّة .
القصّة إذاً تحتاج بغية تحقيق وجودها إلى المعنى العميق والدلالة الجوهرية وحسب قول أحمد أمين: “ما أحوج أدبنا العربي إلى المعنى القوي الغزير في اللّـفظ الجميل البسيط”.
والقصّة من أهم الفنون الأدبية، فهي تقوم على عمل تخيُّلي مرتبط بالواقع أو قابل للإسقاط عليه، والفنّ هو نشاط تخيـّلي له طبيعته النوعية على مستوى التـّشكيل وعلى مستوى التأثير حسب حازم القرطاجنّي.
في مجموعته القصصية “الاحتراق” يقدم الأديب غسان كامل ونوس إحدى عشرة قصة قصيرة تبتعد عن هواجس الحبّ والحرب والإيدولوجيا وتعالج هواجس الإنسان حول” السعادة، الموت ،العاطفة، التحدي”.
تتميّز قصص المجموعة برصد حالات إنسانية اجتماعية ويختار الكاتب شخوصه بما يكرّس هذه الحالات وهو يعتمد على تقنيات الكتابة كالمونولوج الداخلي والتداعي والاسترجاع (السرد من ذاكرة الشخوص).
في قصته الأولى “الاحتراق” والتي أعطت المجموعة القصصية عنوانها يبرز صراع الإنسان الشريف مع ذاته فهو لايتخلى عن مبادئه ولايقبل الغشَّ والاختلاس لكنه ينهزم بسهولة ويقف في مواجهة نفسه اليائسة.
التدخين ضار لكنه لايستطيع الاستغناء عنه ، المبادئ تعود بالجراح إلا أنه لايستطيع الانعتاق عنها ” كيف تتخاذل أمام سلطان التدخين؟! أنت تستمتع به أليس كذلك؟ له لذة خاصة ماهي هذه اللذة؟! من أين تأتي؟ هل هي متعة إحراق الأشياء؟ هل هي نشوة القضاء على شيء ما؟ هل هي تنفيس عن رغبات دفينة فينا؟”ص11
بطل القصة سقط ضحية اختياراته الأخلاقية يرى نفسه كأُضحية يتم حرقها، وهو أيضاً يبحث عن شيء يحرقه لكن ليس لديه القسوة لإحراق أكثر من سيجارة” غيرك يتلذذ بإحراقك وأنت لعجزك تتلذذ بتدمير الأشياء ..بإحراقها ” ص18.
في قصة “الضّباب”: يصوّر الكاتب عدم التقدير الكافي لدى البشر اتجاه أسمى ما لديهم -العلم- إنهم يستهزئون به “إنك عاجز عن إقناعهم بما كنت مقتنعاً به” ص20
في قصة “البسطة”: ترتسم حدود أستاذ الجغرافية بين الشارع الرئيسي والكراج والبسطات الممتدّة على جانبيه إنه يبيع الأقلام والدفاتر “ولكن لماذا تبيعهم الأقلام والمساطر؟ لماذا تغشهم كان شرْكاً وقعت به؟ لماذا تريد إيقاعهم أيضاً؟”ص25
“لقد جهَّز نفسه لمناقشة الطلاب في قاعات الدرس وإذ به يجادلهم في سعر القلم والدفتر “ص29”.
في قصة “الجلجلة”: ينظر بطل القصة في جسد جاره الثري فيراه يزداد ضخامة فيشعر أنه يضيق عليه حيِّز الفضاء ،وأرض جاره تمتد وتنزلق أسلاكها الشائكة حتى تصبح محيطة بأرضه وبطل القصّة يقف عاجزاً كالذي يختنق أو كالذي ينتظر صلبه.
في قصة “الحصار”: لا يجد بطلها محمود أي مناصّ أو أي منفذ يخرجه من سطوة آل دحروج يظل صامداً كعمود وحيد لا هو يحمل بناء ولا هو ينحني أو ينزاح، ووالدة البطل لا تؤثر عليه بتوسُّلاتها رغم حبه الكبير لها ،”الناس مع القوي وأنت ضعيف يا ولدي” ص49.
في قصة “المغامرة” ص57 يحاول البطل أن يدلل زوجته ويدعوها إلى مطعم فخم يدخل المطعم وليس في ذهنه لا الراحة ولا الطعام وهو يفكر فقط أن يحقق دخوله إلى مطعم فخم مع زوجته وأن تكون حرارة الفاتورة غير حارقة.
الطبيعة والتراث يأخذان استغراقاً في قصص ونوس “السنديانة ، البئر ، الصّنوبر ، عين الفوقا ،وكذلك الطّبق”
وفي قصّة الطبق: وصف تصويري للعجوز وهي تحيك طبق القشّ كملاك يغزل النور .
وفي قصّته “اللحظات الفاصلة”: تصوير مدهش لتناقضات في الواقع وفي نفسية أبي محمد، فالآبار التي كانت سبباً لاستمرار حياة الناس وكانت الأغلى عليهم أصبحت في لحظة توصيل مياه الصنابير قليلة الأهمية، وأبو محمد الذي فرح بوصول مشروع جرّ المياه إلى قريته والذي يرقص احتفالاً بهذه المناسبة لا يستطيع حبس دموعه التي تعبّر عن حسرته على زوال أهمية إنجازاته في حفر الآبار.
للأديب غسان كامل ونوس إبداعاته في الشّعر والقصة وغيرها وهو يقدم أدباً واعياً ومتـّزناً في أبعاده الفنية والفكرية ويقدم قوالبه الخاصّة ولوحاته التي تحمل ضوءه وظلاله.
قيس محمد حسين