إذا كان التناقض بين القول والسلوك أمراً نافراً ومستهجَناً، وهو ما يجعل من له هذه الصفة قليلَ الاهتمام والاحترام، ومدعاة للتساؤل والشكّ، وتضعف الثقة به وبما يقول أو يفعل، وتقلّ قيمته،
فيتضاءل دوره، وينوس جدواه، ويتلاشى تأثيره الإيجابي، ويصبح مثاراً للهزء والسخرية؛ فكيف إذا ما أضيف إلى ذلك أن يكون الموقع الذي يتواجد فيه هذا الشخص ذا قيمة معنويّة وأخلاقيّة وإنسانيّة، تتميّز بها عن المواقع الأخرى، وتجعل المسؤولية مضاعفة، والمهمّة أكثر دقّة وحساسيّة، وهي تختلف عن أي مهمّة سياسيّة أو حزبيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة..
أقصد أن تكون المهمّة أدبيّة ثقافيّة؛ سواء أكانت إداريّة أو تحفيزيّة أو تقويميّة أو رعويّة.. ويزداد معنى المسؤولية إذا ما كان المسؤول أديباً أو فناناً، أو يحسب أنه كذلك، ويعامل على هذا الأساس!
لا شكّ في إنّ أيّ سلبيّة في الأداء ستتضاعف آثارها المخيّبة، وتنعكس على مختلف المجالات الأخرى؛ فما بالك إذا ما تكاثرت الأخطاء وتعدّدت الخطايا؛ لأنّ الشخص لا يليق بهذا الموقع؛ ليس لكون الهاجس الإبداعي أو الثقافي شاحباً أو معدوماً، وهذا وارد أيضاً؛ بل لأنّه ليس «من خلائقه الكِبر»! ولا من خصاله الترفّع، ولا في سماته الصدق، ولا تتّسم مواقفه بالتودّد، والتشجيع والمؤازرة، والاحتفاء بالمواهب، والغبطة للمنجَز، والمبادرة بإنجازات جديدة أو تهيئة لها أو إفساح مجال للمزيد منها؛ بل يكفهرّ لإنجازِ سواه، وينقبض لإبداع غيرِه، ويُجيِّر كلّ شيء لمصالحه الماديّة الصغيرة والكبيرة، والإعلاميّة والمستقبليّة.. وبصرف النّظر عن الطريقة التي جاء فيها إلى هذه الواجهة؛ تعييناً أو انتخاباً!! وإذا كانت كلّ هذه التصرفات غير مقبولة؛ بل شائبة في أية أحوال عاديّة طبيعيّة مستقرّة، فإنّ القيام بمثل ذلك في ظروف استثنائية تمرّ بها البلاد، وفيها مواجهة شرسة مع قوى معتدية على الإنسان والبنيان، تستهدف الوجود السوري وطناً وعراقة وتاريخاً وحضوراً قوميّاً، ودوراً إقليمياً وفعالية عالمية.. هو الطامّة الكبرى.
وتزداد الحالة سوءاً مع سكوت من يُفترض أن يمثّلهم، ويتحدّث باسمهم، ومنهم من يساعدونه مُكْتَفين بما يجود عليهم من فُتات، ومتحجّجين بالعجز عن التغيير، لأنّ هناك من يريد ذلك الشخص، ويدعمه، متناسين قدراتِهم وأصواتَهم ولغتَهم التي تجود مديحاً وتزلفاً وتبجيلاً وتقديساً وتسويغاً، وتنضب حين تجب الإشارة إلى الأخطاء في القول والسلوك، ومواجهة مرتكبيها، ووقف استفحالها..
ولسنا نحتاج إلى الكثير من الجهد لنؤكّد أنّ الجبهة الثقافية من أهمّ الجبهات التي يدور فيها الصراع المصيري؛ ففيها تُبدّل مصطلحات، وتُغيَّر مفاهيم، وتُشوّه معانٍ وتُحوَّر مبادئ..
وفيها يحاولون ضرب البنية الثقافيّة التي تحصِّن الكيان الوطني والوثاقة القوميّة، وتفسح في مساحة الحركة والنشاط، وتُفتّح منافذ القول والتعبير، وتضيء أحياز العطاء بصدق واندفاع وإخلاص..
إن وجود أمثال هؤلاء الأدعياء في مواقع القرار أو الفعل الثقافي، أخطر من زعيم مسلّح، أو عميل مأجور؛ لأنّها ندبة مُنتِنة، وخليّة خبيثة، وثقب أسود مغلّف ببعض المظاهر المعسولة.
وإذا ما تمّ هذا تكون قد استمرّت فصول المأساة، وشُرِّعت أبواب الهزائم، ورُفِعت رايات بيضاء، ذات أبعاد قاتمة، حتّى لو ارتفعت في مجالات أخرى أقواس النصر، ودقت في أحياز أخرى أجراس الفوز على الأعداء!