نثارُ عطر وتوق..
قراءة في المجموعة القصصية “ذاكرة من ورق” للأديبة سوزان خواتمي
غسان كامل ونوس
“ذاكرة من ورق”، أم نثار أمانٍ أو وقع توقٍ، أو أصداء خفق لجناح يهمّ وقلب يهيم؟! أم زفرات أسى، وتلهف أو حنين، أم رجع أنين؟!
الحب؛ أطيافه، وأوهامه..
والغربة؛ أوزارها وحصارها،
والوحدة؛ اتساعها وضيقها..
والزواج؛ سعادته وشقاؤه..
والطلاق؛ شره وجدواه..
إنها إنسانية الرغبة في العيش، والتوق للشريك الذي يليق والعلاقة التي تستحق.
البراءة في البحث عن الآخر، وانتظاره، والحبور بحضوره، والعتب من برودته، أو لا مبالاته، أو انشغاله، والمرارة من الوقوف على حقيقته، أو الخيبة من صعوبة الوصول إليه أو استحالته، والندم على اقتراف اصطياده من عشه!
انسانية التطهر من أدران الغربة بالمطر الأليف المفتقد منذ سنين، المطر الذي يتغلغل حتى مسامات الروح فينعشها، وأي حماقة هو التفكير بمظلة؟! ألا تكفي المظلات الكثيرة بل الجدران التي كانت تحجب شمس الوطن وصباحاته وسماواته، وتحول دون النظر صوبه من أية نافذة تهفو إليها.. إلا نوافذ اللهفة والتوق والبوح والمآقي؟!
ألا تكفي مظلات الواقع، أو ستارات الغفلة، أو أشراك الليل، أو أشواك الوخز أواخر الظلام أو أوائل الأيام؟!
الحياة بمبتداها الذي يغل بعيداً: ذلك الصباح الشقي خطواً إلى المدرسة، أو تلك الأمسيات الموشاة بحكايا الجدات التي تهدل /كانت؛ بفيض ابتسامة تشع رضى من زميل أو جار أو صديق أو حبيب، أو وشوشة كلمات عبر الأسلاك أو عبر أوتار الروح.
إنها الحياة بمتنها المترنح.. علاقات تخيب وغربة تتطاول، وتناقضات يمكن أن تترك ظلالاً قاتمة على الكائن البشري..
هل هو كائن بشري حقاً أو من جنس الأحياء الأخرى؟! بل الجمادات ربما؟!
الحياة بمنتهاها.. شيخوخةً وفقداً للأعزاء الذين بعدوا، أو غابوا دون رجعة، ولا شيء يُنتظر إلا الخلاص بأقل الخسائر، وأية كارثة أكبر من الحلم يتهاوى، واللهفة تتبخر نحو أفق يسود باطراد؟!
الحياة بقلقها، وخصوبة أوقات عشقها الذي يؤمل أن يبقى عشقاً، كيلا يتحول إلى علاقة تبترد فصولها، أو تنفصل عراها، تاركة حنيناً أو أمنية قارسة، أو رؤى متناقضة، أو أفعالاً غير متوازنة..
أتراها بشرى (الحمامة) تهلل وتتدلل للآخر الذي هو هيكل أو مجسم ليس غير؟!
أم تراها لجلجة العاجز نداءً للأنثى التي لصوتها وقع مؤثر، لم يكن يسمعه، كان مشغولاً بجبروته، هذا الذي تنشغل صاحبته عنه الآن هو الذي يكاد يُغص في الحال الأقصى من الحاجة إليه، إليها .. إلى أية إلفة أو حنان..!
أم هي دعوة إلى التحليق لكائن يتجلد وعلاقة تتجمد؟! أم هي حرية النورس الذي يتوهم أن بمقدوره أن يرقص وحيداً؟!
أم أنفة الصياد الذي يعف عن الصيد الذي يرتمي بين أقدامه دون سعي أو كمنٍ أو إطلاق!
أم غبطة الكائن الذي يعيش مع أصداء إلفة ووداد ودفء!
أم تراها حشرجة الحدس بقلق من مصير غائم معلق؟!
أم هسهسة التوق للخلود عبر كتابات تنشر أخيراً بعد طول اصطبار!
هل هي مذكرات من ورق لكائن كان.. يكون؛ قد يكون؟!
كائن مترع بالحياة، مثقل بأعبائها، حائر جراء احتمالاتها.. قلق منها، عليها!
*
من قال إن إظهار الشغف يفسد النساء؟! (ص83).
إذا ما كانت المرأة تبحث عن إنسانيتها.. فأي مصير أحمق ينتظرها أمام الضياع؟!
إن هذه الكتابات محاولة تمني الهدوء من صخب الأفكار المتقافزة عفاريت بأنصاف ملامح إلى ذهن الكاتبة (ص39).. لكن لا أظن أنها من دون فائدة؟!
إذا كانت قيمة النص، أي نص، تتجلّى بالأثر الذي يتركه لدى المتلقي / الكائن البشري/ على الأقل، فإن أصداء الوقع الشفيف لهمسات نصوص المجموعة أو زفراتها، للاحتراق الدفين الذي يمكن أن تظهر بروقه أو وميض أو دخانه، للوجع المزمن والحزن الناصع، والأرق الممض، أو أثر الحزن على أوتار الروح لا يني يوقّع اللحن فتصدى الجوارح..
إنها موجة عطر أو خصوبة أو أنوثة أو إلفة أو رغبة أو توق..
لا تبخل بشآبيبها على الحيّز الذي يتسع ويضيق بشفافية تعذُب وتنبه، وتدعو للمشاركة التي لا بد منها لخوض هذا المسار الطويل على قصر، الغامض على حيويته، الصامت رغم ضجيجه وصخب المهرولين فيه!
هل عوّض ذلك عن حركة القص المرجوة في النصوص الموسومة قصصاً، والتي غاب بعض منها، رغم أن أصداءها ممكنة؟! وهل عوض ذلك عن تباين إيقاع النبض من نص لآخر؟! وهل عوض ذلك أيضاً عن تقريرية بعض العنوانات ومباشرة بعض النهايات؟!
وهل ساعد في ذلك أيضاً رقة الأداء وأناقة اللفظ وتخييل العبارة، وبراءة الأسئلة ونبل الغاية..؟!
وهل لدى النصوص الأخرى في الكتابات التالية للأديبة سوزان خاتمي، ما يفترق عن هذه الباقة المنوعة من الأغصان هذه التي يفترض ألا تقصَّف خارج جذوعها، حديقتها، بيئتها، كيلا تذبل..
وهل سيكون لدى القاصة فيما بعد نصوص متلبسة بالقص أكثر..؟ !
***
غسان كامل ونوس
الفئة: دراسات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي-القصة السورية
تاريخ النشر: غير محدد