الفئة: من أدب الرحلات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

من انطاكيا إلى انطاليا
غسان كامل ونوس

هل تبدا الرحلة الآن؟! أم تراها بدأت منذ ما يزيد عن ساعتين ومئة كيلومتر، حين أقلتنا سيارات ثلاث عاملة على خط (حلب- انطاكيا)، كانت في انتظارنا؟!
ها نحن نصعّد في سفح مخضرّ، بعدما عبرنا إشارة إلى مطار انطاكية لن نتبعها؛ تزيده شمس ساطعة في هذه الظهيرة المميزة، وتحاول إخفاءه أحياناً في غموض شفيف معبر.. الطريق العريضة تتحايل على انحدارات داهمة، تستنجد بالمَشاهد، فتترامى السهول باخضرارها المزرقّ، مستنجدة هي الأخرى بهضاب وجبال تتباعد، لتساعد على التصاعد المتواصل، بإلهائنا عن خطورة وانعطافات، لتنجدها مراوح هوائية عملاقة من ذرا تتقارب قبل أن تتباعد هي الأخرى، مع استوائنا على إحدى القمم التي تحفزنا لمزيد من التسارع، تتجاوب معه الحافلة العنيدة الصامدة، فترخي العنان لمسير يتواصل مع بعض قرى لأسمائها دلالات وأصداء يخفق لها القلب؛ وتتضاعف اللهفة، وتتلاهب المشاعر، حين يشرف اسم اسكندرون، ويبدو شاطئها ومرفؤها اللذان يذكّران باللاذقية، ولا سيما حين تمتد الحارات المأهولة عبر السفح اليميني المحاذي.. فإلى أيّ خافقيك تميل؟!
نتجاوز ذلك، عبر عقدة طرقية، وعقدة أخرى في الحلق، تتواصل مع انحدار جديد صوب أضنة، ومرسين، وقرى تعبرها متنقلاً بناظريك بين الدكاكين المكتظة بالخضار الطازجة، والبيوت المتسلقة سفوحاً وهضاباً، وبشرٍ تبدو ملامح الألفة بادية رغم العبور الاسفلتي؛ الألفة التي تلامحت في وجوه من التقيناهم في انطاكية، وسترافقنا في مختلف لحظاتنا القادمة، ولا سيما النسوة باللباس الريفي وغطاء الرأس مذكّرات بأردية الأهل منذ سنين! كما تذكّرنا بهم عبارات السائق التركي الذي لا يعرف الكثير من العربية، لكن ما يلفظ به يثير في النفس كوامن، ويعيدك إلى أيام الطفولة، وما كان يلفظه عجائز قرانا، مع الكثير من الدفء الذي غاب الكثير من أصدائه في مسارات الحياة التي تلهث وراء الجديد أزياء ولهجات!
كان الانشراح قد بدأ يفيض في استراحة مشمسة جميلة ملونة في إحدى قمم جبال (أضنة)، وقد بدأ شيء من التعارف والتآلف يتنامى بين أعضاء الوفد المتجه إلى انطاليا للمشاركة في مهرجان الشعر الفلسطيني، مع محاولة التواصل العصيّ مع العاملين في المطعم، لاختيار ما يمكن التفاهم على استساغة لفظه قبل هضمه. وزاد التوادد في هنيهات استراحة الشاي على الواقف في (مرسين)، التي اضطرتنا إليها الحاجة إلى الوقود.. وكان يمكن ملاحظة الشوارع المستقيمة والأبنية المميزة والجسور، رغم العبور المتسارع، لأن أمامنا ساعات من المسير العصي بين الجبال والسفوح، كما أكد لنا السائق مراراً، مما جعلنا لا نطيل التشبث بالشاطئ الجميل، والتحديق في البحر الذي أطل بعد انتظار، منذ أن علمنا أن الرحلة برية، والطريق التي سنعبرها ساحلية.
وبعد مسير طويل بين الأشجار والقرى، وعبر الانعطافات التي تتضايق وتنفرج، توقفنا على شفا انهدام حاد، وواد سحيق، لن يتوقف من ينزلق إليه متسارعاً عشرات الأمتار، إلا إذا ترأفت به شجيرات متشعبة، أو أشجار متناهضة، أو صخور متناتئة؛ ويا لها من رأفة!
حين بدأت الحافلة بالتصاعد من جديد، واستقبلتنا أشجار الصنوبر المتعالية، بتنا متأكدين أن المرحلة الصعبة قد حلت، وكان السائقان اللذان تناوبا على القيادة، يحذران منها، منذ اللحظات الأولى للانطلاق من (انطاكيا)، مع همّ ألقياه إلينا مبكراً، بأن الرحلة ستتجاوز إحدى عشرة ساعة؛ في الوقت الذي كنا نظن فيه أنها لن تتجاوز ثلثي هذه المدة في الحدّ الأقصى؛ لكن الكلام عن جمال المناظر وتبدلاتها وحدّيتها، خفّف من وطأة ذلك؛ ها هي المشاهد البديعة المخضّرة تتوالد وتنسفح وتتكاثف، وتتوالى الانحدارات الحادّة القافزة إلى البحر الذي يقترب ويبتعد في لعبة كالاستخباية، لكنه سيجِدُّ في اللعب وربما الغياب، مع ترمّد زرقته واقتراب الشمس من المغيب، كما تبدلت ألوان السفوح وكمدت ألوانها، وخفّ النظر إلى الخارج، بعد أن صار الأمر مدعاة للقلق أكثر منه للمتعة؛ فكان لا بد من انشغال آخر داخل الحافلة، بانطلاق نقاشات وحوارات تحتدّ، ويختلط فيها المزاح بالجدّ، ولا سيما أن أعضاء الوفد ينتمون إلى عدد من الجهات لا تتفق على الكثير من المسارات والوسائل والوقائع والأصداء، والأهداف القريبة؛ أما الغايات الكبرى فلا اختلاف ولا تردد، وهذا ما شكل غطاء آمناً، ومورد طمأنينة قائمة، وهو ما كان أصلاً وراء هذه الرحلة الشائقة الشاقّة، وهذه الرفقة المشاكسة الودودة..
ها هي تزداد ألفةً مع التخويض المتعرّج المظلم، والتوغّل المضني في ساعات الليل، الذي لا يكاد ينفتح على أضواء متقاربة، تشي بأنفاس آدمية ممكنة، حتى ينغلق إلى لوحة مسودة متغافلة حتى عن أضواء متناثرة، أو عابرة برهبة وتردد في اتجاه مواكب أو معاكس..
كان لابد من استراحة أخرى، تباعدت رغم ما أكده المودّعون من أن الاستراحات لا تحصى، وهي رهن الرغبة والحاجة والطلب!
في تلك الجلسة المستديرة الجامعة الأولى، على مصطبة ترابية تعلو الطريق قليلاً، زادت الأشجار المحيطة، والسيارات القليلة المجانبة، والأضواء الواهنة، وفوضى العناصر وبساطتها، وبطء الكائنات المحدودة ورضاها، من الإحساس بريفية المكان ويسره، وراحته؛ مما نفض عن عيوننا وكواهلنا الكثير من عبء الساعات الثقيلة التي مرّت، وجدّد الحيوية لإمرار ما تبقى من مسافة يُختلف على مقدارها وظروفها، بما تضمنته ساعة الشاي من تعارف قريب، وتآلف أقرب، حمل الكثير من الحوار المفيد والكلام الطريف، ومغالبة الوقت والجهد والنوم، واللوحات الطرقية التي تَعُدّ ما تبقى من مئات الكيلومترات بالقطّارة، حتى استطاعت إعادة الكثير من الإحساس بالتعب، لنفاد الصبر، والحنق على ما صارت إليه الرحلة (الترفيهية الثقافية)، ونحن نقترب من منتصف الليل، ومرور اثنتي عشرة ساعة على بدايتها، بعد أن كان مقدراً لها أن تكون جوّية سريعة مريحة؛ وأقسمنا -ربما- أننا لن نرجع من هذه الطريق وفي هذه الحافلة مهما كانت الظروف، وساد قلق وتساؤل عما يمكن أن تكون عليه المراحل القادمة، بعد الوصول الذي استعصى تصوّره، إلى أن بدأت تباشيره بالخلاص من التضاريس العصيّة، وانفتحت الآفاق رغم غموضها، وتيسرت الطريق بتعرجات أقلّ، واستقامات أطول، قبل أن تكثر الأضواء في الجهات وتقترب حتى جاورتنا، وكانت قد وصلت إلى السائقَين متأخرةً حمّى الظُّرف التي تزيدها حدة الحصار أو الإحساس به، وبدأا يتناوبان التأكيد أن الزمن الباقي لا يتجاوز (عشر دقّات) هذا الذي تعدد، لكن وقعه كان لطيفاً مع إيقاعات الحياة الأخرى التي تبثها المعالم البادية من حولنا: شوارع مزدانة، ولوحات مضيئة، وأبنية متلألئة، ونحن نعبر مدينة ظاهرة التميز (ألانيا)؛ المدينة السياحية الهامة الأخرى على البحر الأبيض المتوسط، كما علمنا لاحقاً، وفرحنا ونحن نتابع كثافة اللوحات، ونترقّب تناقص الأرقام المشيرة إلى وجهتنا العزيزة (انطاليا)، وفرحنا أكثر، مع أولى المفاجآت السارة: الفندق الذي سننزل فيه، أقرب من (انطايا) المدينة بنحو خمسين كيلو متراً؛ إذن لم يبق، إلا أن نبحث عنه في هذه السلسلة المتكاثفة من المنشآت المميزة؛ هل يكون الفندق المفاجأة السارة الأخرى؟! كانت الساعة قد تجاوزت الواحدة بقليل، حين هَمَت ابتسامات المستقبلين ذوي النجوم الخمسة وتعليماتهم: كل شيء متاح: القاعات والشرفات والطعام والشراب مهما بلغ وتنوع حتى منتصف الليل، إلا المسبح وصالة الديسكو..
وتتالت تلك المسرّات: الغرفة وتجهيزاتها الكاملة، الوجه الرضيّ والروح الطيبة لرئيس اتحاد كتاب أوراسيا الدكتور عمر يعقوب اوغلو، والأصدقاء الذين توافدوا لحضور الندوات واللقاءات، ورافقونا الأيام الأربعة في الفندق، وعلى الشاطئ، وفي مقر قائمقام منطقة (مناوغت) وشلالاتها البديعة، في مبنى محافظة (انطاليا) وشاطئها وأسواقها، وفي المنطقة الأثرية القريبة التي عرّجنا عليها، قبل مغادرتنا في الساعة السادسة من مساء الخميس 29/4 في الطريق الساحلية المثيرة ذاتها!
لماذا كانت ساعات العودة الاثنتي عشرة أخفّ وطأة؟! ألأن ما اكتنزناه من مشاعر الودّ والألفة والحميميمية، كانت زادنا؟! أم لأن الطعام السريع ما بعد منتصف الليل ساهم رغم محدوديته في مقاومتنا؟! أم لأن سحور (كيليكية) كان يرعانا، وفجر (اسكندرون) الرطب ترفّق بإيقاظنا، وشآبيبه الحانية هبّت لمرافقتنا حتى ابتدأنا الهبوط الآمن إلى (انطاكيا)؟!
هل ستنتهي الرحلة هنا كما لم تبدأ؟! أم أن أمامنا ما زال الكثير من حال الشغف التي سترافقنا في الأسواق التي أيقظناها بلهجة تعرفها، وسحنات تألفها، ونستعذب دفئها وحفاوتها؛ والأصداء العربية تتردد في الكثير من ساحاتها وشوارعها ومحالّها، وشواطئ العاصي النديّة، والضيافة النبيلة التي أصرّ عليها الكثيرون من الباعة حتى من دون شراء؟!
لن تنتهي الرحلة؛ فأصدقاء الأيام الستة، لن يبرحوا ساحة الشعور، وتفاصيل اللحظات المرهفة لن تغرب عن مدارات الإحساس، ولن ينوس الأمل في لقاءات أخرى، علّ وعسى!
***
غسان كامل ونوس

اترك رداً