(مهرجان العجيلي للإبداع الروائيّ)
(22-25) تشرين الثاني-(2019م)
ثلاث ساعات إلّا قليلا، من مفرق الطبقة، وجوار الرصافة، وتوغّلاً في حضن البادية البارد المعتم الموحش، خارجاً، والحيّز الدافئ الأليف المتحفّز داخلاً، في الحافلة المتوسّطة الحجم والحداثة؛ أمّا الأدفأ والأكثر تلهّفاً وإحساساً بضرورة الوصول وأهمّيّته، ففي دواخلنا؛ نحن أعضاء وفد وزارة الثقافة؛ كما خاطبنا أوّل المستقبلين على مشارف “السبخة” على بعد نحو خمسة وثلاثين كيلو متراً شرق مدينة الرقّة؛ قرابة ثلاث ساعات، وساعات عديدة أخرى قبلها، من المسير الجادّ، لا تساوي شيئاً لقاء من ينتظرنا هناك: الفرات والعجيلي والرقّة والثقافة والحياة! إنّهم يستحقّون!
قلت ذات منبر في المركز الثقافي في “السبخة”: لا أستطيع أن أحبس مشاعري عنّي وعنكم، وأنا أستمع إلى أعذب موسيقا مرافقة: أصوات أطفال المدرسة جوارنا؛ لأستذكر أنّني في الرقّة، وفي ندوة ثقافيّة عن العجيلي وروايات الحرب!
الأطفال هؤلاء بزيّهم المدرسيّ، وآخرون بهيئاتهم وسحناتهم الفطريّة، حضروا افتتاح مهرجان الدكتور عبد السلام العجيلي للإبداع الروائيّ صباح (22-11-2019م)، وكانوا يستمعون إلى النشيد العربيّ السوريّ، والكلمات الخارجة من القلب، ويتابعون بغبطة ودهشة، العرض الراقص لفرقة حيويّة قَدِمتْ من حماه، على مسرح مؤقّت، أقيم على عجل، في ساحة المدرسة، لهذه المناسبة، ويصفّقون، ويهتفون، على الرغم من البرد، الذي يضاعفه هواء جافّ، وتحاول أن تلطّفه شمس، تطلّ واثقة بعد سنين عجاف. أسترجع مرغماً، وأنا أتابع الملامح والحركات والحماسة، منظر الأطفال هؤلاء، وأقرانهم، هنا في “السبخة”، وفي أيّ من السبخات الأخرى بمسمّيات مختلفة، وفي أيّ من ساحات الرقة السبيّة، يقفون مرغمين جامدين لمشاهدة الجرائم الشنيعة والوقائع الفظيعة بحقّ أبناء الرقّة وبناتها، أو أبناء أيّ من الأرض السوريّة؛ لأترك الدمعة تعبّر، والكلمات تفصح عن بعض ما أشعر به، ويحسّه زملائي المشاركين في المهرجان من عدد من المحافظات السوريّة، وأكثر من قطر عربيّ؛ كما عبّروا عن ذلك جميعاً؛ هم القادمون من مناطق لم تكن غالبيّتها بعيدة عن مشاهد الإجرام المماثلة، وجاؤوا وجئنا، لنقول كلمة، ونقدّم رأياً، ونؤكّد موقفاً.. نحتاج إلى ترسيخه نحن؛ كما يحتاج إليه أبناء هذه المنطقة العريقة الزاخرة بالتاريخ وأحداثه، والكلأ ومواسمه، والإنسان وخصاله وقدراته.. لقد جمعتنا ضفّتا الرقّة: الفرات والعجيلي، وضمّتنا إحدى سبخات الرقّة، وجمعتنا إحدى ضفاف الفرات، على أمل أن نلتقي في باقي الضفاف والسبخات في أقرب تحرير.
التقينا، ومنّا من لم يلتقِ آخرين، منذ ما قبل سنوات الكارثة، وهذه فضيلة أخرى للقاء؛ أمّا فضيلة الاستضافة والاحتفاء من قبل أبناء المنطقة؛ على اختلاف ألقابهم ومسؤوليّاتهم ومهمّاتهم الرسميّة والحياتيّة، ومن قبلِ مسؤولي وزارة الثقافة في مديريّتها في الرقّة، والمركز الثقافيّ فيها وفي السبخة، فالحديث عنها يطيب، ويزهو، ويسمو..
لقد كانوا وكنّا جماعة في الواقع والروح، في الحركة والجلوس والحديث والطعام والشراب والنوم.. في النشاطات التي طالت، ودمجت، بحضور متنوّع غنيّ متفاعل بمداخلاته، التي أغنت ما قدّمه ضيوف المهرجان من دراسات وشهادات حول العجيلي وأدبه، وروايات الحرب، وكتاباتهم الروائيّة..
أيّام لن تنسى، وأوقات لها وقع مختلف، في الإقامة والسفر، يضاعف من أهمّيّتها أنّها النشاط الثقافيّ المركزيّ الأوّل، الذي يقام في تلك الأرض العائدة إلى حضن الوطن، وقد رافقنا العلم الوطنيّ بألوانه الزاهية، وخفقه الأثير، الذي يحمل أيضاً وقعاً مختلفاً هناك، وفي مثل هذه الظروف.. كما أنّ التساؤلات المتكرّرة عن الأمان، من الأهل والأصدقاء والمعارف، التي سبقت الرحلة، ورافقت خطواتها، وساعات العودة الأخرى، التي تعدّدت بمعاينة نهاريّة متفرّسة ومتحفّزة في طريق معبّدة تبطئها الحفر والأخاديد، وتُعثِرها مشاهد الخراب في بيوت القرى القليلة التي عبرتها، وفي سور الرصافة العريق، ومشاهد خزّانات الاستجرار اللصوصيّ الذي كان مشرعاً على طول خطوط الأنابيب الممتدة طويلاً، من آبار النفط التي عاد بعضها إلى العمل… كلّ ذلك؛ يضاف إلى أحاديث شهود العيان للجرائم المرتكبة بحق السكّان، وبعض مشاهد التدمير في “السبخة” وجوارها، قرب الطريق التي تشرّق قليلاً، ثمّ تمضي نحو الجنوب مسافة مهمّة، قبل أن تغرّب وتتعرّج باطّراد، ويضاف إلى وصف التدمير الممنهج لمعالم مدينة الرقّة؛ ولا سيّما قصر الثقافة؛ حيث قامت أربع طائرات هليوكوبتر من قوى التحالف العدوانيّ بدكّه من علٍ، حتّى أبيد، وبيع حديد أنقاضه؛ كما حديد سواه، بعشرات الملايين!
ساعات وساعات من السير الهوينى في طريق العودة المضيئة الكاشفة، ومثلها في طريق الذهاب المعتمة الغائمة، وما من أذى؛ بل إحساس داخليّ بالأمان، وإذا ما فتر، طالعتك أضواء في قلب الصحراء، وأعلام وطنيّة، لحواجز عدّة للجيش العربيّ السوريّ، تطمئنك؛ بأنّكم محروسون بالعين الساهرة، التي حرّرت هذه البقاع، وطهّرتها من رجس الإرهاب، وستطهّر ما تبقّى بعزم وإرادة وإصرار واقتدار؛ تمهيداً لإعادة إعمار ما تهدّم، وإعادة جبر ما تصدّع، في المادّة والنفس والروح، وهو ما تسهمون فيه، برحلتكم التاريخيّة هذه؛ ومَنْ أهمّ من أدب العجيلي مبادرةً في ذلك؟!
***
غسان كامل ونوس