الفئة: شهادات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

محمّد حاجّ حسين رائد أدبيّ مظلوم

(1914-1989م)

الشارقة الثقافيّة-

غسان كامل ونوس-

إذا كنّا؛ نحن الذين ما نزال نجدّ، ونسعى، في مختلف شؤون الحياة، نتلاوم حول العدل والإنصاف، ونتشاكى من الظلم، الذي قد لا نسلم منه- ومن ممارسته على الآخرين- ونحن ما نزال ننتج، نقول، ونفعل على رؤوس الأشهاد؛ فكيف يكون الأمر بالنسبة إلى من غادر المشهد، ولم يعد حاضراً بين الناس؛ حتّى إن كانت نتاجاته ما تزال حيّة، وقابلة للمقاربة والدراسة والاستشهاد بها؛ كمّاً وتنوّعاً ونوعاً؛ تاريخاً وذاكرة وريادة؟! وتزداد الحال قسوة، حين يخرج مجرّد الذِّكر من الحسبان، ونكاد؛ نحن المشتغلين في الكار، لا نعرف شيئاً عن هذه الشخصيّة المتميّزة علماً وأدباً، وقد ينال التجاهل آخرين؛ بالدرجة نفسها، أو بقدْر أقلّ؛ وتعدّدت الأسباب والظلم واحد!

تلكم هي حال الأديب الدكتور محمّد حاج حسين، المولود في طرطوس- سوريّة، في العام (1914م)، وحصل على الماجستير سنة (1937م)، والدكتوراه بامتياز ودرجة شرف؛ العام (1960م) من القاهرة- جمهوريّة مصر العربيّة، في الأدب العربيّ، وعاصر رموزاً أدبيّة وثقافيّة مشهودة هناك، في أواسط القرن الماضي؛ ويكفي القول: إنّ من بين أساتذته: طه حسين، ومصطفى أمين؛ وأتقن الإنكليزيّة والفرنسيّة؛ ما أسهم في تعرّفه إلى الآداب العالميّة. وعمل في سلك التدريس في سوريّة، قبل إكمال دراسته، وتسلّم مهامّ في مديريّتي المعارف في اللاذقيّة والرقّة، قبل أن يسافر إلى جدّة في المملكة العربيّة السعوديّة.

ولم تتأخّر الاهتمامات الأدبيّة لمحمّد حاجّ حسين، فبدأ خطوه ينمو على دروب الكتابة والأدب؛ متساوقاً مع مسيرته في التحصيل العالي؛ ومستلهما من الحال، التي وافرتها ظروف الدراسة في القاهرة، فنشر في جريدة (البلاغ)، وأصدر أوّل كتبه في العام (1944م)، واستمرّت إصداراته في الظهور حتّى العام (1972م)؛ فيما بقي عدد مهمّ من المخطوطات، من دون طباعة ونشر؛ على الرغم من أمنياته ووعوده بذلك، قبل أن توافيه المنيّة في العام (1989م).

وتنوّعت كتابات الأديب حاجّ حسين، التي رأت النور؛ ما بين الحديث عن أدباء عرب معاصرين وقدامى؛ أمثال: حافظ إبراهيم، ومحمود سامي البارودي وإسماعيل صبري والحطيئة وابن خفاجة الأندلسي، وغيرهم، وحالات خاصّة وجدانيّة وغير معروفة كثيراً، لأعلام ومشاهير في الأدب العالميّ والفكر الاقتصادي والاجتماعيّ: (شكسبير، وديستويفسكي، وبلزاك، وغوتّه، ومارك توين، وجان جاك روسّو، وكارل ماركس، ولرمنتوف، ومكسيم غوركي، وبوشكين، وآخرين)، وغير مشهورين في التاريخ الأدبيّ العربيّ القديم (الشاعر الكميت بن زيد)؛ وصولاً إلى مهمّشين في الحياة المعاصرة، عبر نماذج متعدّدة تعاني من الفقر، والحرمان، والظروف الاجتماعيّة، التي تدفع إلى مهن منبوذة، وممارسات غير محمودة، وأفعال شاقّة، مع مشاعر محاصرة، وعواطف غير محصّنة، وحالات نفسيّة غير متّزنة، ونهايات متوقّعة أو معلومة، أو مفروضة؛ نتيجة مقدّمات، من خارج النصّ الأدبيّ، أو من داخله، ومؤشّرات ومسارات، تقود إليها عاجلاً أو آجلاً، مع رسائل تربويّة، وتعليميّة، وأخلاقيّة، وتحذيريّة، تُدوّن صراحة في الاستهلالات أو الخواتيم، وفي المتون أيضاً؛ جاء في “تصدير” روايته: “اعترافات الشيطان الأزرق”؛ مثلاً: هذه ذكريات، عاشها صديقي خالد، وقصّها عليّ ذات يوم، فسجّلتها بدقّة، وأحببت أن أشرك القرّاء، في هذه الحياة، التي كانت تستجيب، لنداء الجمال والحبّ، في كلّ لحظة عبرت بها.. وكنّا نلقّب خالداً، بالشيطان الأزرق، لأنّه كان دائماً يردّد: إنّ ألم القلب، الذي يخلّفه حبّ امرأة، لا يزول إلّا بألم من حبّ امرأة أخرى..”

ويقول في الصفحة (137) من الرواية: “قرأت على صديقي خالد هذه الاعترافات.. فكان يصغي إليّ بجميع حواسّه، وترتسم على ملامحه شتّى الانفعالات، فكانت أعضاؤه تتقلّص وتتشنّج، وتتجلّى على وجهه امارات غريبة، فمرّة يبكي، وأخرى يضحك، وثالثة يعبس، ويهيم في ذكريات بعيدة قريبة.. وانتهيت من الفصل الأخير وقلت: كيف رأيت؟! هل أحسنت التعبير عن مختلف المشاعر التي كانت تحتدم بك؟”.

وبعد عدة أسطر؛ يضيف: “ثمّ بادرني بالقول، وقد التمع في عينيه وميض غريب: لقد أحسنت التعبير يا صديقي.. ولو سجّلت بنفسي هذه الذكريات، لما جاءت أروع  ممّا فعلت..”.

 ولا عجب في أن نتاج الأديب حاج حسين القصصيّ والروائيّ، الذي تعدّد، لم يخل من المباشرة والشرح والتقريريّة، التي تخفّف من الجاذبيّة؛ لافتقاد الترقّب والتلهّف لمعرفة ما سيحدث، وأسبابه؛ فهذا طبيعيّ؛ بالنظر إلى الزمن، الذي كتب فيه، وطبع، وما كان سائداً من مفهومات لطبيعة الأدب آنذاك ومقوّماته، ولكن اللغة التي كتبت بها النصوص، كانت مميّزة؛ فصاحة وجزالة وأناقة وسلامة، وهذا أيضاً لا يخرج عمّا كان مألوفاً ومرغوباً، وربّما مطلوباً؛ ففي الصفحة (32) من الرواية المذكورة، نقرأ: “وارتعت، وازبأر شعر رأسي، عندما انسكب في مسمعي صوت وديع: سأكون لك.. يا خالد..”، “وكنّا نستيقظ في البكرة الفتيقة، فندلف إلى الوادي، نستلقي تحت شجرة، نستمتع بالطبيعة، التي تتجلّى بأبهى يقظتها..”؛ وفي الصفحة (85): “واشدّة شوقي إليك يا ندى… أيّتها النسمة الأرجة، التي هبّت على حياتي المصوحة، فأحالتها ناضرة باسمة.. كم أتلهّف إلى سماع صوتك تتكسّر نبراتك الخضرة في أذني.. فتغسلني من كلّ أوضاري..”.

وتضاف إلى هذه الميزة، السلاسة في الأسلوب، والاستفاضة في العرض والتوصيف، والتحليل، والتعليل، والتسويغ، من دون أن يُترك للقارئ من كثير جهد، سوى في تمثّل الحال، وتخيّلها، ومعايشتها؛ وهذا ليس عسيراً، مع الشخصيّات الواقعيّة، أو التي يمكن أن تكون حيّة بين أشخاص ذلك الزمان، وتتنقّل في تلك الأحياز؛ حيث الخيارات ليست وافرة، والظروف قاهرة، والاحتمالات محدودة؛ ورد في الصفحة (116): “حتّى إذا قربت من البيت، الذي تسكنه الفاتنة، رفعت رأسي أستشفّ المجهول، وإذا بي، لدهشتي، أراها تهبط على السلّم، وقد لبست ثوباً أسود شفّافاً، تبدّت من خلاله، تقاطيع جسدها البارعة التنسيق، ونظرت إليها، أحاول أن أستمتع بهذه القامة الهيفاء، التي تتثنّى في مشيتها، المتكسّرة.. وعلقت عيناي بعينيها الخضراوين الواسعتين، ورأيت وجنتيها تحمرّان.. واندفعت صوب الشلّال، وأنا أحسّ بوقع أقدامها، كحفيف الموسيقى، تتراقص في مسمعي.. وكثيراً ما حاولت أن ألتفت إلى الوراء ليتاح لي الاستمتاع، بسحرها المشبوب، ولكنّني لم أصغ لنداء القلب، الذي يلحّ عليّ، لأسكر من هذه الفتنة، التي تمشي ورائي..”.

وفي كلّ حال، فإنّ اهتمام الأديب بالناس، الذين يعيش بينهم، ويستمع إلى حكاياهم وشكاويهم، ويسمع عنهم، دفعه؛ مع حساسيّته المرهفة، وبراعته اللغويّة، واستشعاراته الدافئة، إلى أن يدوّن ذلك بأمانة؛ ما يجعل أصحابها يقرّون بنجاحه في ذلك؛ وهذا يؤكّد قرباً وألفة، وإنسانيّة يطمح إليها، ويسعى إلى تجسيدها من خلال الأدب؛ بالقدر، الذي يتيحه؛ من خلال من يقرأ، وينفعل، ويتأثّر، ويتّعظ، فيندم، ويتوب، أو يتمنّى ذلك في أضعف الإيمان. ولكنّ المشكلة القديمة الحديثة، في هذا المضمار، تكمن في قلّة من يقرأ، ويستذكر، ويذكّر، فيظلم الكاتب مرّتين؛ بل مرّات؛ حين يهضم حقّه في النقد، ولا يترك له مكان في التاريخ الأدبيّ، ولا في المناهج التدريسيّة المتدرّجة حتّى الدراسات العليا، ولا يستفاد ممّا أراده من خلال ما كتب، ونشر؛ فيما يأخذ أدباء آخرون الحيّز كلّه، والجهد، والصفحات، والدراسات، وتتعدّد التوصيفات وتتنافس التقييمات؛ ولكن، أليس للآخرين حقّ أيضاً، وقد كان لهم، حضور وتاريخ وأصداء، تستحقّ أن يضاء عليها، أو يشار إليها على أقلّ تقدير؛ ومنهم الأديب المرحوم: محمّد حاج حسين؛ فتكاد لا ترى موادّ له أو عنه، إلّا في ما ندر. (ولا بأس من الإشارة إلى الدراسة التي تحدّثتْ عنه في بضع صفحات، في الكتاب الصادر عن اتّحاد الكتّاب العرب في سوريّة؛ العام (2006م) للدكتور عبد الله أبو هيف، فأشهد أنّني تواصلتُ مع بعض ذوي الأديب المرحوم، وأحضرت الكتب، التي استعرضتْها المادّة في ما بعد، وقدّمتُها للناقد، ثمّ أعدتُها إلى مصدرها؛ ومنها استقيت بعض المعلومات!)

 ونذكّر بأنّ للأديب الدكتور محمد حاج حسين نحو عشرة كتب مطبوعة؛ هي:

  1. عبقرية الأدب العربي ـ الجزء الأوّل (1944م)- دراسة
  2. جنازة قلب (1950) – قصص
  3. الجوع لا يرحم(1953)  – رواية
  4. ملكة الجمال- (1954)  رواية
  5. اعترافات الشيطان الأزرق  – (1954)رواية
  6. ثلاث شفاه- (1955)  قصص
  7. عباقرة الفكر في حياتهم العاطفيّة (1956م)– دراسة
  8. الحقيقة المرّة (1970م)- نصوص مسرحيّة
  9. زاوية في الجنّة (1971م)
  10. الكميت حياته وشعره (1972م) – دراسة

ويتّضح من متابعة هذه الإصدارات، أنّ صاحبها- وسواها ممّا لم يُنشر- كان متنوّع الاهتمامات الأدبيّة: الدراسة والتراجم، والقصّة والرواية؛ إضافة إلى المسرح؛ وهذا يظهر مدى ثقافة الأديب، وشموليّته، وبعد نظرته، وحرصه على نشر الفضائل والمعارف والجمال بأدب ينثال بأكثر من وسيلة وشكل وأسلوب. 

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً