الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: موقع طرطوس
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: 

العودة الى صفحة أدب وفكر

مثل زهرة برية

غسان كامل ونوس

مثل زهرة برية تفيق على شمس بعد مطر، في ربيع بعد شتاء، تتمطى بفرح ونشوة، وتشع بألوان الحياة وتميس باحتراز.. وتتناهض بطاقة غامضة نابضة..

أفقت هذا الصباح، بإحساس مشحون بلهفة للضوء، للشمس، للهواء.. ممتلئاً بالغبطة، مكتسياً بردة التكيف مع العناصر والأشياء.. ورغبة التعامل الودود مع الكائنات.. مستمداً من أنني ما أزال على قيد الوعي، ومنطلقاً من أن “المصيبة التي لا تقتلك تزيدك قوة”.. وما أكثر العثرات والخيبات، في العمر الذي مرّ، والذي يمكن أن يمر!

متصادياً – ربما – مع نداء بعيد، ودفقٍ فطري من موارد أزلية – في مجارٍ متحفزة..

لست أدري إن كان للكائن العذب الذي رفرف فوق النافذة وصوّت دور، أو للمطر الذي غصت به المنافذ لأيام، أو للدفء الذي يدغدغ الأوصال رغم البرودة الملبدة؛ أم أن ذلك يعود للحلم الذي عشت تفاصيله زمناً..

أعلم أن من الأحلام ما يكون معكوساً، ومنها ما يكون أماني ورغبات مكبوتة أو معلنة، ومنها ما يتعلق بالحال التي سبقت النوم، أو وضعية النائم، ومنها ما يكون رموزاً تحتاج متابعة وتأملاً ومراقبة للتعامل معها.. لست غافلاً عن كل ذلك..! ولن أفكر في أي منها، وسأعيش أجواء الحلم الذي كان!!

*

بطريقة ما، أو أمر ما.. أو نصيحة أو رغبة ذاتية، لم تكن الكائنات التي عايشتها في الحلم قظة، مستعجلة، لاهثة، حائرة، ثائرة، مكتئبة.. وهي كائنات تشبه كائنات أخرى تشبهني، رغم ذلك، ورغم أني لم أكد أصدق وأنا في الحلم أنها كذلك، لم تكن عدوانية، ولا متصايحة، ولا متعاتبة بالأيدي أو بأدوات أخرى أشد أذية، ولا متسابقة (على رأي الأديب عدنان محمد في قصته “السباق”).

ولم تكن متناومة، متقاعسة، مثرثرة.. ولا وديعة تأكل القطط وسواها عشاءها، ولا لينة إلى درجة العصر.. كانت تمشي كالساعة متماسكة، وقورة، جادة متحفزة.. كل شيء بحسبان، الوقت والعمل والتعامل والغرائز والحركات والمشاعر والعادات والواجبات..

حتى أن للراحة أوقاتها التي تعاش بامتلاء .. الضحك مشرع تحسه منبثقاً من القلب، والمتعة تأخذ أمداءها.. لا صراع على المغانم، لا عراك على الفتات.. لا انشغال بحطام الدنيا، ولا جحوظ في ربح الآخرين وقلقَ من نجاح الآخرين.. لا عصيّ أمام أقدام تخطو بثقة، ولا دعوات انتقام أو رغبات تشفّ، أو رجاء كارثة لأحد.. لا تجاوز ظالماً، ولا إدعاء بما لي بالإمكان ولا مناصرة لما لايصح، ولا تفاخر بما ليس حقيقياً. لكل دوره حسب إمكاناته.. ولكل موقعه حسب كفاءته وخبرته وقدرته على القيام بما يتحمله.. ولا يُنظر إلى مواقع الآخرين إذا كان الناظر لا يستطيع إيفاءها حقها، أو ليست من اختصاصه أو اهتمامه..

لا يقف أحد عند حدود ما تعلّمه، بل يطمح إلى المزيد من المعرفة والعلم.. لا يُسكت أحد أحداً، ولا يقاطعه وهو يتكلم، ولا يسكت عن قول الحق أو المبادرة بما يحس أنه مفيد.. لا يفكر أحد بأن يخرج عن السياق الذي تحدده المبادئ، وتقرره التشريعات، وتجيزه القوانين، ولا يتلمظ محدقاً بما لدى الآخرين.. ولا يلوك ما لا يعرف ويقتنع ويفعل، ولا ..

ولهذا ترى علائم الرضى على الملامح، وأمارات الثقة على الوجوه والحركات، ومظاهر الطمأنينة والإحساس بالكفاية والأمان.. لا تخفى.

لم يكن أحد يتلفت وراءه أو إلى جانبيه خائفاً، لم يكن كائن يركض بلا حساب ومن دون اتجاه محدد، لم يكن قلق ينغص الأوقات ويشوّك المضاجع، لن يمت يأس يعفن الدروب، واستسلام تأسن له المفاوز.

لم يكن شك بأن الآخر يوشك أن يوقع به فعليه أن يتغداه قبل أن يذهب ضحية عشاء أخير!

كان كائناً عاقلاً..

وكان حلماً ..

*

لست أدري كم دام ذلك، منذ متى أنا نائم..؟!

وفي أي هزيع من النوم كان..؟! وما مبرره وما معناه..؟!

وما جدواه..؟!

هل كنت نائماً حقاً..؟! أم شارداً أم غافلاً..؟! أم راجياً..؟!

ولِمَ أفقت، من الذي أيقظني..؟! ولِمَ؟!

لماذا لم يتركني في سعادتي؟! ألا يحب لي الخير؟! ألا يتمنى للحياة أن تكون مثالية؟! ألا يرغب للجميع العيش في وئام وسلام وأمان وعمل وقناعة وإشباع؟! لماذا لم يكن معهم، لماذا لم يتعلم منهم، لم ينخرط بينهم؟! هل هو مستفيد من الوضع المعاكس.. الحال الأخرى؟! مستفيد ومخطط وداعم لها ومساهم في استمرارها؟!

كان ذلك كثيراً.. أعرف.. أكثر مما أتوقع، أتخيل.. وأتمنى.. ربما!

حتى حين كنت هناك.. لم أكد أصدق.. كائنات أعرفها، ولا أكاد أعرفها! لكنها كانت، واستطاعت أن تقوم بما قامت، واقتنعت وأقنعت.. هناك.. في ذلك الحلم..!

*

مثل زهرة برية – أحاول أن أعيش – عمرها يوم وتحيا اليوم حتى منتهاه”

مثل زهرة برية يداهمها الصقيع، ويشيح عنها شعاع الشمس، وتشتد على عودها الطري الرياح – أخشى – أن تذبل.. وتنهدّ وتنحني، وتسحق تويجاتها الأقدام.. وتبدد أطيافها الأوهام.. وتتبخر مع الشمس كأضغاث الأحلام..
غسان كامل ونوس

العودة الى صفحة أدب وفكر

اترك رداً