الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: ليس آخراً-جريدة الأسبوع الأدبي
تاريخ النشر: 2013-01-19
رابط النص الأصلي: http://www.awu.sy

ليس آخراً
غسان كامل ونوس
ما يفرّق وما يوحّد!

من المؤلم أن يكون هنا وهناك الكثير مما يفرّق السوريين في مختلف المناطق والمواقع، ويباعدهم مسافات مادية ونفسية، ويشتّتهم فرقاً وأسراً وأفراداً، ومواقف تتجاوز -للأسف- حدود القطيعة التي ليست سوى “أضعف الإيمان”، فتصل أحياناً إلى المواجهة القاتلة!
وتكاد الأحاديث والأقاويل التي تتناول الوقائع والأحداث، لا تبتعد عن هذه المواجهة بشكل أو آخر؛ إذ تختار منها ما تناسب رأيك وأفكارك وتدعم رؤياك، لترويها، أو تستمع إليها، أو تناقشها؛ وهي موجودة، ويمكن أن تضيف إليها، أو تحوّر في بعضها، بما لا يُستبعد أن يكون واقعاً أيضاً.
ومن الحكايا التي تُتداول وتُكرّر، ما يبلغ تخوم الأساطير في مدى لؤمه وشرّه وعدوانيته وحقده، أو في مقدار الصمود والمقاومة والصبر والتضحية والأثرة..
وهذا ما يمكن أن يجعل المواجهة واردة في أيّ مجلس، حتى ذاك الذي يضم متجانسي الرأي والنية والهدف؛ وهذا ما يتيح لأيٍّ كان أن يأخذ جانب التكذيب، أو التشكيك، أو التخفيف من حدّة الأمر بتحويل مجراه، أو تفسير نتائجه، أو توصيف مغاير لـ”أبطاله” أو للمشاركين في وقائعه، أو سرده.. وهذا ممكن أيضاً، ويحظى ببعض المشروعية أو التسويغ على أقلّ تقدير، فيما قد تكون الحال الحقيقية أفظع من ذلك وأشنع؛ أو أشرف وأرفع وأسمى؛ ولاشكّ في أنّ من أصداء هذه الحالات تشتتاً آخر، وقلقاً إضافياً، أرقاً ومرارة وغصات..
وما يزيد من كلّ ذلك، وللمفارقة التي تدخل في “شرّ البليّة”، ويوحّد السوريين كما لم يتوحّدوا من قبل.. ربما، حال المعاناة التي تكتنفهم أنّى كانوا، وحيثما حلّوا؛ في البيت، والشارع، والحارة، والعمل بشتّى أنواعه، والبطالة بأقسى تبعاتها، داخل البلد أو خارجه.. وهي معاناة بلغت حدوداً أسطورية هي الأخرى في بعض الأماكن، وما تزال، كما بلغت درجة تحمّلها؛ بل مقاومتها حدّاً ليس من السهل تصوّره وتخيّله، رغم أن ذلك حقيقة واقعة؛ اختناقات جاحدة في الحاجات الأساسية، وأوقات قارسة في سبل الوصول إلى تأمينها، من مواد ضرورية للعيش، أو وسائل اتصال أو انتقال، أو فرص تعليمية وتحصيل معرفي، وقبل ذلك وبعده، الهدوء والاستقرار والأمان، وسواها من متطلبات نفسية اجتماعية إنسانية..
وإذا كانت هذه حال السوريين كافة، فمن الطبيعي أنها تختلف في شدّتها وأثرها وحضورها على الشرائح مختلفة المستويات والبيئات والأعمار..
ويفاقم منها ما يستجدّ من ظروف ومناخات، تمارس فيها الطبيعة فعلها “المرصود والمتوقع والممكن”، من دون أن تفكّر في من يتعذّب ويقاسي ويصارع؛ لأنها محكومة بدورتها المعتادة التي قد تشتدّ فيها الفعالية، أو تخفّ، أو تتناوب بين العنف واللطف..
وإذا كان هذا شأن الطبيعة “غير العاقلة” في كل وقت وحين، فإن من بين السوريين من يمارس دوره أيضاً في زيادة المعاناة والتقليل من فرص الانفراج، أو على الأقل، عدم الاهتمام بالتخفيف عن الناس الذين يعانون، وفي مقدوره ذلك؛ وعدم الاكتراث لما يحدث من أزمات، وفي استطاعته المساعدة في حلّها؛ وعدم المبادرة إلى إغاثة الملهوف، ومساعدة المحتاج؛ ناهيك عمن يولغون في الضلالة قتلاً وتمثيلاً وتهجيراً وخطفاً، وتخريباً لخطوط الوقود والطاقة، وتبديداً لأرصدة الوطن والمواطنين، وقطعاً لسبل التواصل، وزرعاً للخوف والقنوط والخيبة في نفوس الناس..
هؤلاء هم خارج نطاق القضية التي نتحدث عنها، بعد أن فَجَروا وطغوا وبغوا وانتهكوا الأوقات والحرمات.. لكن هناك من ما يزالون يظهرون بمظهر المخلّصين، وهم قاطعو أرزاق، ويبيحون لأنفسهم شدّ الحبال حتّى على أعناق البشر، أو تضييقَ الأنفاس وتكبيلَ الملَكات، وتدبيرَ الكمائن، واصطيادَ الرنين والأنين!!
أعترف أنه ليس بالكلام وحده يشبع الناس ويتدفؤون ويأمنون؛ لكنّ في بعض الكلام الجميل ترويحاً وتخفيفاً، وفي سرد القضايا الإيجابية إشاعةً أكبر لروح التفاؤل وتحفيز الطاقات على العمل الخلاق.. بدلاً من التيئيس والتبئيس والترويع والتبخيس من الأفعال الخيّرة، وتبخير أصدائها المنعشة.. لأنّ القاسم المشترك الأكبر بين السوريين أيضاً، الأمل بالخلاص، والتطلع إليه، والثقة بذلك؛ لأنّ ما وراء الأكمة صار أمام النظّارة، وما خلف الستار صار على المسرح بثّاً حياً بالصوت المنكر والصورة الفاجعة، وغدا الجميع شهود عيان حقيقيين.. ولعلّ هذا أيضاً ما بات يجمع السوريين، ويوحّدهم أيضاً وأيضاً، وهذا كلّه يمثّل الطاقة التي تتنامى، ولا بدّ ستعمم، وعلينا، كلّ من موقعه، الإسهام في ذلك قولاً وفعلاً وشعوراً ومشاركةً، وأملاً ليس من دون مسوغ أو من دون جدوى!
***

اترك رداً