لست وحدك
غسان كامل ونوس
الخصب مُشرَعٌ، وكثير من الزرّاع كسالى أو جاحدون..
الخضرة منداحة بلا حساب، وثمة من يَكْفرُ بالمروج، ويُكَفِّرُ النضارة.
الجام تفيض، والسواقي تتوه، والشفاه مُشقَّقة واللّعاب مملّح!
قلق وتسارع وحيرة، انكفاء وابتعاد وارتداد، تصبّر وتدبّر وتكتّم، مرارة وتفجّع وغصات..
حماسة واندفاع، صمود وبسالة ونبالة، تفهّم ووعي وقناعة وإيمان..
فهناك ما هو أبعد من زناد، وأقرب من قنص، وأدقّ من رصد، وأعمق من صورة، وأصدق من شعار، وأوضح من مصطلح، وأثبت من موقف، وأبقى من عاطفة، وأدفأ من دمعة، وأرقّ من حُداء، وأمرّ من فقد..
هناك ما هو أطول عمراً، وأغلى قيمة، وأكثر حنوّاً وسموّاً..
هناك أو هنا أو هنالك..
تتحرّك النوازع وتُحرَّض المنشطات، تفور الغرائز وتدور المحرّكات، تتحدّد الأهداف، وتُرتَسم الغايات..
يريدون أن لا يكون لك سوى التكهّن، والتخمين، والترقّب، والاستثارة، والانفعال..
يودّون أن لا يبقى لك إلا أن تكفكف، وتهدهد، وتواسي، وتؤمّل!
وليس من حجرٍ قلبُك، ولا أعضاؤك من شمع، ولم يؤلْ كيانك إلى التراب بعد، ولم تُعتَصر إلى آخر الإحساس، وما زالت الأنفاس في سريانها، والأماني في انتثارها وتكاثفها..
وما زلت تنخدع، وتُغدر، وتنصدع وتُستدرج، وتخيب وتتعثّر..
لا يمكنك التشكيك في كلّ شيء، ولا التوجّس من أيّ شيء، رغم كلّ ما جرى!
لا تجيد الحذر، وقد عشت واثق الخطوة، خارج المكامن، ووقعت في أكثر من فخ.
لا تقتنع بالوباء البلاء، ولا الجائحة الموسمية، رغم هيمنة الشرور، واجتياح الفجور..
والتاريخ يشهد، والذاكرة لم تجدب، والضباب ينقشع ويعود، والسماء تصحو وتتعكّر، وليس كل الغمام مكتنزاً مدراراً، ولا كلّ الرياح جلابة المطر!
وليس الأمر عارضاً، ولا الانتكاسة طارئة؛ فالمرض مزمن، والعلامات شاخصة لمن يريد التقويم الصائب، والتحليل الصحيح، ويتمنّى السلامة، ويسعى إلى العلاج!
وتكثر التوصيفات والتحذيرات، ويتوافد المشيّعون قبل الممات، والإسراع في الدفن إكرام للئام، ونصر للطاعنين، ومهرجان للندابين، وجائزة للشماتين، وفوز للمتنبّئين بلا سحر ولا أبراج؛ أما الوارثون فلا بأس عليهم في يتمهم وشحّهم وعجزهم، ولا بأس لديهم في خراب ويباب وسراب!!
وليس القضاء والقدر؛ لا معنى للتفكّر والتعقّل، والحرص على المبادئ، والحقوق البشرية.. إذن؛ ولا تفسير لاتّصال الظلم، وتواتر القهر، وهيمنة الجهل، واشتداد التآمر، وسطوة الحماقات، وجموح الغرائز، وجنوح الرشاد؛ ولا معنى للرفض، ولا مسوّغ للمواجهة، ولا سبيل للمقاومة، ولا مفرّ ولا خلاص!!
لا.. ليس الأمر منبتّاً، ولا الحكم مبرماً والقضية ليست منتهية، ولا المآل مرصوداً، ولا المصير في رقيم خالد؛ أو فتوى أبدية..
وأنت لا تنتظر رحمة، ولا غفلة، ولا وحياً، ولا بأساً طارئاً، ولا صبراً أكثر مما يتشرّب الألم، ويستوعب الصدمات؛ ليس لأن الموت عدل، ولا لأنّ في البلوى قصاصاً؛ فأي معنى للحياة، أو للنجاة؟!
ولا يعنيك أنهم كثير، ولا يخيفك أن الغالبية تلغو وتغزو، وهناك من يخاف فينقاد ويبالغ في الهوان، أو يجبن فيستسلم، أو يندحر، ويشِيع فروض الهزيمة؛ ويقلقك تشوّش الأفكار، وتناقض المترافقين، وتنافر القول والفعل..
وأنت في كلّ آن ومكان، وفي كلّ أمر..
ترى، وتحس، وتعي..
ولا تيأس، ولا تتذمّر، ولا تتأخّر، ولا تتحسّر؛
لأنك أهلٌ لما هو مطلوب، وجدير بأن تواجه، وغنيٌ عن أعطيات ومغانم، وعزيز أمام نفسك وفكرك ويقينك؛ لأنك تستحقّ أن تكون صيداً ثميناً، وتستحقّ أن يعجز عنك المتربّصون..!
ولست وحدك!
***
غسان كامل ونوس
الفئة: زاوية
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الأسبوع الأدبي-ليس آخراً
تاريخ النشر: غير محدد