تنطبق على الصديق المفتقد الشاعر المهندس سائر إبراهيم تسمية أديب، في المنحيين:
– السلوكيّ الشخصيّ والمجتمعيّ؛ مهذّب بلا تصنّع، شهم بلا منّة، أصيل في منبته وأسرته وبيئته ووطنه؛ وداد بلا ادّعاء، وألفة ونبل ووفاء، وحماسة للعطاء بلا مقابل، لباقة وحياء بامتلاء؛ معبّر عن مواقفه باقتدار، بعيد عن الأذى، قريب من الناس برضا وإنسانيّة…
– الكتابيّ اللغوي والإبداعيّ؛ بارعٌ في التعبير، شغوف في سعيه، متمكّن من أدواته، محترم لموهبته، مبشّر بما هو مقتنع به، وما يسرّ؛ واثق، مبادر، مجلٍّ..
ويتلبّسه المسمّى الشاعر، ويستدعيه، ويتمثّله، ولا يحتاج اللقب إلى أيّة لاحقة أو سابقة.
وهو نحّال في هاجسه، ونحل في طبعه وسعيه وهمّته وخصاله.
ليس صيّاد جوائز؛ بل هي التي كانت تمضي إليه؛ لأنّه يستحقّها.
كان يغرف من نبع؛ فيرشّ، وينعش، ويمتع؛
ويمتح من روض؛ فيعطّر؛
لشعره- ولحديثه- إيقاع محبّب، ووقع مثير؛ جمله تقصر، وتطول، بتنوّع وحيويّة، عباراته أثيرة، وصياغاته متّزنة واعية شاسعة، ثرّ المفردات، وافر المعاني، قوافٍ متنوّعة، ووقفات محفّزة، إقبال واسترسال…
كان له حضور أثير؛ يداني، ويتناءى؛ كي يظلّ خفيف الظلّ، مطلوباً أكثر؛ لكنّه ابتعد أكثر فأكثر..
وبعد حوالي عامين من رحيله القارس في العام (2018م)، صدرت للشاعر الراحل سائر إبراهيم، عن الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، رابعة مجموعاته الشعريّة “قمح الكلام”، ((96) صفحة من القطع الوسط)، التي كانت قد فازت بجائزة دبي الثقافيّة- المركز الثالث، في العام (2015م)؛ كما فاز الشاعر بجوائز عدّة محلّيّة وعربيّة..
في موضوعات “قمح الكلام”:
يتضمّن الكتاب عشرين نصّاً مفعّلاً؛ تبدأ “من تغريبة الشعراء”، وتنتهي إلى “صرخة”، يبوح الشاعر فيها بمكنونات صدره، ويبثّ عواطفه، وينثر أفكاره تجاه كائنات تعنيه مباشرة؛ سواء أكانوا الشعراء أو الشهيد، أو الغائب، أو الكائنات الأكثر قرباً وألفة: امرأة البيت، أو المرأة البيت، الجنين ثمّ الطفل، ثمّ… أنثى الخيال!
إنّها المشاعر الإنسانيّة في جوهرها، وفي تفاعلها مع ظروف الحياة وحالاتها، التي لا تصفو دائماً؛ لا تصفو كثيراً؛ ولا سيّما أنّ هناك حاجة دائمة إلى السعي في سبيل العيش الكريم؛ فالشاعر المهندس، الذي يغيب سحابة النهار في غابة الاسمنت، وما أدراك ما الاسمنت، من مواد وغبار وحُفر وآليّات… إلى المسؤوليّة، التي لا تتوقّف عند ساعات العمل والمتابعة والتنفيذ؛ بل تستمرّ أيّاماً وسنين، لكن الزوجة المحبّة الوفيّة، تنفض عنه ما علق، وتخفّف ممّا لا يُنفض في الأوصال، وتشغله بحنوّها وإلفتها عن كلّ ما هو خارج البيت، ثمّ تأتي المناسبة الأكثر سعادة؛ أنّه سيصبح أباً بعد ساعات، فتفيض المشاعر مناجاة للقادم الجديد، هذا الذي سيلاعبه بعد حين من التعب والإنجاز، ويخفّف عنه هو الآخر؛ بطفولته العذبة، ما قاسى، وما ينتظر.
وللشعراء نصيب؛ هم الذين يعانون ويقلقون من أجل السلام والأمان في البلاد والحياة؛ أمّا الشهيد الذي يشكو مكان الشهادة وطريقتها، فيجعله الشاعر رائياً معنّى؛ هو الذي كان يتمنّى قاتلاً آخر وحدوداُ أخرى..
وللأرض العريقة، والفصول المتبدّلة؛ والشتاء أقساها، حضور لدى الشاعر؛ كما للحبّ وتضاعيفه وتجلّياته المتنوّعة في أوقات وموائل وحالات، أكثر من ملمح وشعور وانفعال ونصّ.. كما يؤنسن الشاعر المادّة المصنّعة؛ فيروي “حكاية باب” بصوته الكامن، فيجعله يحسّ ويتألّم ويشكو، ويرجو، ويأمل أن يعود إلى أمّه الأرض خميلة…
التقنيّة
اعتمد الشاعر نظام التفعيلة بأشطر متفاوتة الطول، ومقاطع متعدّدة الأشطر، تنتهي بقافية، يمكن أن تتعدّد هي الأخرى، وقد أعطى هذا الأسلوب النصوص إيقاعاً متنوّعاً، يتناغم مع وقع التفعيلات؛ لتتشكّل ألحان وموسيقا عذبة وماتعة وغنيّة بالتردّدات، وتترك لدى المتلقّي إثارة وترقّباً للوقفة القادمة في قافية من صلب النصّ وجنسه؛ بانسجام وانسيابيّة، وسرعان ما يعود التحليق والطواف والتوقّف من جديد في حركة، تذكّر بسلوك طائر أليف، تطلقه الكفّ إلى الفضاء القريب، فيتحرّك يمنة أو يسرة، أو ينطلق عالياً، ثمّ يعود بعد حين، وتترقّبه؛ ليوشك أن يحطّ، ثمّ يرفرف من جديد.. وأنت مُثار ومستمتع، ومأخوذ بهذه اللعبة الفنّيّة الحيويّة، التي تستغرق أوقاتاً متنوّعة، بحركات وأصوات؛ كما لو كنت في حديقة طيور ملوّنة أليفة..
وقد يهدأ الأداء أحياناً، وينتظم أكثر في نصّ عموديّ تقليديّ..
ويستفيد الشاعر في تطوافه الأثير من التاريخ والأديان والأساطير؛ لإغناء الفكرة وتعميق الصورة وتحفيز الخيال:
لا متاهة أمتعت “أوديسها” (ص8)- المسمار في جسد المسيح (ص15)- صلاة الغائب (ص30).
ويستثمر قراءاته ومسموعاته في نفث بعض آثارها، فيدخل في ثتايا قوله: “ريتّا” و”فيروز” و”زوربا”: … لنطلق “فيروزنا” في الأعالي، وننشد “ريتّا”، ونرقص “زوربا”؛ (ص29و30).
كما يعمد إلى الحوار في نصّه الشعريّ؛ سواء أكان حواراً داخليّاً: ـ”حكاية باب”، أو حواراً بين كائنين؛ منقولاً بلغة الشاعر وعباراته المموسقة. قال صخر (ص7)، قالوا (ص8).
اللغّة:
على الرغم من مهنة الشاعر العلميّة وشهادته الهندسيّة؛ حيث يتعامل مع عناصر جامدة، فإنّ لغته حيّة نابضة بالمشاعر الملوّنة، ورصيده من المفردات والمسمّيات وافر، وأسلوبه ماتع في الصياغة والعرض.. ويمتاز الأداء التعبيريّ بالسلاسة واليسر والتنوّع والمتعة والانسيابيّة، وقد تتسلّل بعض عبارات المهنة “الاسمنت”، لكنّها لا تؤثّر على النصّ الغنيّ بالكلمات الحيويّة الأخرى، وقد لطّفها حيناً بربطها بـ(الغابة)، أو نزعها حيناً آخر عن جسده: “أنزع الاسمنت عن جسدي” (ص58).
ويمكن تشبيه جريان العبارات الشعريّة لديه بجريان المياه بالراحة على وجه الأرض؛ كأنّ لها مجاري خاصّة بها ومناسبة لها، فتتحرّك بين التضاريس والوعورة بانسيابيّة وهدوء، وحسب ما تريد الفكرة والصورة والرغبة؛ بلا عناء ولا تعب..
ولشعره خرير متنوّع يقوى ويشغف، وصدى يتردّد في الذهن والذاكرة زمناً، بعد توقّف الجريان، أو وصوله إلى غاية المنحدر.
وهذا الأسلوب يحسب للشاعر، وكان أداؤه على المنابر يعزف هذه المقطوعات، ويتمثّلها بنبرات وملامح وإشارات وحركات، تزيد من تأثيرها لدى المتلقّي.
وتأخذ المفردة مستوى أبعد من ملفوظها؛ بتضايفها مع أخرى من طبيعة مختلفة، ويعطي للنصّ أبعاداً جديدة، تدع الخيال يمازجها أو يواشجها في لوحة جديدة، أو مادّة مختلفة، تحتاج إلى التأمّل والإمعان؛ مع ملاحظة أنّه لا يبالغ كثيراً في ذلك؛ فتبقى في مستوى قريب، وفي متناول القارئ: أزرق الكلمات، مؤونة وجدهم؛ (ص5)- الحروف تطير أسراباً أمام شرودهم؛ (ص5)- ذاكرة من الأقمار نشوى؛ (ص6)- والغدير غمام؛ (ص9)- يربّون المنى؛ (ص9)- طقس النبوءات المطيرة؛ (ص9)- يقلّمون حنينهم؛ (ص9)- الحبّ الفسيح؛ (ص15)- الصبح الشحيح؛ (ص18)- على ضفّة الوجد؛ (ص28)- شاطئ الشعر؛ (ص29)- حنطة الرؤيا؛ (ص33)- فوق غصون صمتي؛ (ص33).
ويكرّر الشاعر بعض الكلمات أو العبارات؛ لتأكيد فكرة والإلحاح عليها، أو الإيحاء بها، وقد يكون لها بذلك وقع مختلف، يزيد في غنى النصّ وتنوّعه..
وإنّي أراكَ أراكَ أراكَ؛ (ص27)
وكيف حلمنا طويلاً طويلاً؛ (ص30)
أخيراً أخيراً سأغدو أباً؛ (ص42)
سأحبّها وأحبّها وأّحبّها؛ (ص63)
سواكَ سواك؛ (ص67)
وأنا.. أنا المزروع في بيت يشاطرني انتظاري…؛ (ص83)
*
سيبقى الشاعر سائر إبراهيم في الرصيد الثقافيّ الاجتماعي الوطنيّ أيقونة نابضة، وفي الذاكرة صدى كريماً؛ كما مرّ في حياتنا مرور الكرام…
***
غسان كامل ونوس
الفئة: دراسات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الشارقة الثقافيّة- العدد (42)
تاريخ النشر: 2020-04-01
رابط النص الأصلي: https://alshariqa-althaqafiya.ae/pdf/prevFull.aspx?I=vKuQqlzo9Ds=#