الفئة: مقال
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: 
تاريخ النشر: 
رابط النص الأصلي: 

قراءة في المشهد الثقافيّ الحاليّ

ملحق الثورة الثقافيّ- (3-9-2021م)-

غسان كامل ونوس-

لا يمكن النظر إلى الواقع الثقافيّ الحاليّ، من دون أن نأخذ بالحسبان ما مرّ على سوريّة من سنوات قارسة، خلال الحرب العدوانيّة، التي ما تزال مستمرّة منذ عقد ونيّف، بأشكال متنوّعة ومتعدّدة، بسيطة ومعقّدة، مألوفة ومستجدّة، ومنها ما يتعلّق بالثقافة، وعناصرها، ومكوّناتها؛ لكن من غير المنطقيّ، أن نحمّل الظروف هذه ومفرزاتها وتداعياتها المباشرة وغير المباشرة، تبعات ما تعانيه الحال الثقافيّة، وما يمكن معاينته وتقرّيه بلا عناء؛ ولا سيّما من قِبَلِ من يعيش في خضمّ وقائعه وانفعالاته؛ وكان في الخضمّ أيضاً، قبل بداية الحرب، وخلال أتونها؛ ولهذا أيضاً، يمكن القول؛ من دون تردّد، بأنّ المشهد الثقافيّ لم يكن ناصعاً، وازدادت عكارته، خلال الحرب، وتضاعف الصيّادون فيه، وتنابتوا، ومنهم من لم تكن لديه عدّة الصيد، ولا عراقته، ولا هوايته؛ ربّما؛ ولم يخفّ العَكَرُ، بعد خفوت أصداء الجبهات، وضجيج المحاربين النظّارة، الذين استمرّوا على الجبهات الثقافيّة، بعد أن استبدلوا بكلمات الحماسة ومناديل الوداع، وأوشحة التأسّي، تلويحاتٍ أخرى بوسائل أخرى، واستعانوا بما تحصّلوا عليه من جوازات عبور حربيّة، في ظروف غير هيّنة، لم تسمح بالتدقيق والتمحيص؛ ليخوّضوا في مفازات ومنابر وساحات متعطّشة للخطو المختلف والعبور المغاير؛ بما لا يملكون من رصيد لغويّ ومعرفيّ وفنّيّ؛ مستفيدين من ارتداد نفر، وسكوت بعض، وتردّد آخرين، ومن غياب مقوّمات، ومعايير، وانشغال معنيّين ومهتمّين بما هو أدسم، وأدهى؛ ومستغلّين انفراغ مقامات، وتعب قامات، وتصدّع أرواح، وتلف أعصاب، وخجل رغبات، ومتوسّلين نافذين تبقّوا، وآخرين تطفّلوا، وتطوّفوا، ومتأرجحين بأردية منتفشة، في فضاءات عنكبوتيّة، ومهيمنين بمسكنة ومنّة وبلا ماء وجوه، على أشخاص وأحياز؛ ومتجوّلين في جهات، وكامنين في مسالك ومفارق؛ مسلّحين بألقاب بهلوانيّة، وشهادات خلّبيّة، وسيل من صور ملوّنة، “وسيلفيّات” مستعرضة، ووقفات وقولات وصولات في أحياز هشّة، وبيادر مقفرة أو تكاد.  

وليس في هذا التوصيف مبالغة؛ فهل من مهرب لمن ما تزال الجذوة الأصيلة لديه متّقدة، من هبوب أخبار كثير من التجمّعات “الثقافيّة” بمسمّيات مختلفة، ومعانٍ متقاربة، وأهداف واحدة، وموضوعات عاديّة، وأساليب مكرورة، وعبارات مستهلكة؟! وليس لكثير من متزعّميها علاقة متأصّلة بالثقافة الحقّة، ولا يعانون من احتراقات وتوتّرات قلقة من، أو على، وجود ومصير، وكائنات وكينونة، وخلاص وأمان؛ لكنّ لهم- للحقّ- علاقات وصداقات ومصالح وأساليب ولباقات، ولهم مطامع وغايات؛ لا تبدأ بالظهور والشهرة والتزجية الضاجّة، ولا تتوقّف على التشدّق والتسلّق، والوصول المشهود إلى أكتاف وكوّات ومنابر ومطالّ؛ بنعومة لزجة، وتمويه وتسفيه؛ ولا تنتهي برقصٍ كالآل، وقوام كخيال المآتة، ومواليد كالبوّ، ولا يعبؤون بانكشافهم بقرقعة العظام في القيعان، وتلاشي الأصداء في السموت والأنحاء المضبّبة،  ولا يحسبون أيّ حساب، لما يتردّد من هنا أو هناك، متناهضاً بين الصخور والأجمات، ومفتّقاً لحاء شجرة وأشجار، ومباعداً بين الترب والشظايا والأشلاء: إنّه عارٍ، وإنّهم منافقون، وإنّ بعضهم، في أبسط توصيف وأخطره، ضحل وشحيح ومستنفد في مهمّات وتهم سابقة، ومنهم من يغسل وجهه وسمعته؛ يحاول، بالثقافة! وعلى الرغم ممّا تشكو منه بحقّ متطلّبات الثقافة من حاجات أكبر بما لا يحدّ من الإمكانيّات المادّيّة، والتجهيزات، والأدوات، والتنقّلات، والإعلام، فإنّ لدى كثير من هؤلاء قدرات للترويج والدعاية والقيام بجولات، وإعلام؛ يُفترض التساؤل حوله!

وهناك ظاهرة تستحق الدراسة، وتتّصل بما سبق؛ بل تكاد تشكّل هيكله، ورافعاته؛ إذا ما كانت ترفع؛ وهي طغيان النصوص والأقوال والمقطوعات باللهجات المحكيّة؛ مع الإطناب في التوصيف والتظهير والتعويم؛ إنّها من دون شكّ بالنسبة إليّ، تعبير عن حالة قحط وبوار لغويّ وفكريّ ومعنويّ، وهي نتيجة وسبب وعلامة. ويجري استسهال تلك المدارج والمسارب، واستغلال عواطف العامّة، واستثارة غرائزهم، وذكرياتهم، ومعاناتهم الماضية، وبؤسهم الحاضر؛ لاجتذاب اهتمام، أو استجرار ضحكة، أو استدراج تصفيق! من دون أن نغمط بعض المجيدين في هذا المجال ما يمتلكون من طاقات وجمال؛ بل إنّ ظلمهم يأتي ممّن يدّعون حبّ ليلى بلا قلب!

وتمكن ملاحظة عودة النشاط الرسميّ المتنوّع الوقع والمكان والشكل، إلى وتيرة أكبر؛ وهذا مؤشّر جيّد، والجيّد أيضاً الاهتمام الجليّ بالمواهب الجديدة وفي مختلف الفنون، وقد ظهرت مواهب مقدّرة، برؤى مهمّة، وأصوات ونبرات خاصّة، بدأت تأخذ مواقع لها في المشهد الثقافيّ؛ لكنّ الخوف عليها من الإكثار من الظهور، غير المحسوب أحياناً، والمبالغة في الإطراء غير العقلانيّ؛ وهذا ما قد يؤثّر سلباً على اللألأة بالوهج المدّعى والدخان اللاحق!

وعادت دوريّات ثقافيّة إلى نشاطها، وتحرّكت، أو حاولت، وتحاول، لكنّ حيويّتها بقيت في الهواء، أو في فضاءات إلكترونيّة غابيّة مكتظّة بكثيرات سواها، تضيع فيها ومعها الجاذبيّة، والتلهّف، والترقّب والانتظار؛ في ظلّ غياب الورق، والافتقار إلى مستلزمات الطباعة تماماً في كثير منها، والإقلال من النسخ في قليل منها- والأمر ذاته ينسحب على الكتب المتنوّعة، ما عدا بعض أصحابها القادرين مادّيّاً ونفوذاً، المحدودين ثقافة وغنى-؛ فتبقى تلك الحركة بلا بركة؛ ليس لبهلوانيّتها الهوائيّة فحسب؛ بل لأنّ محرّكاتِ أغلبها، ما تزال تعمل برؤى المتمكّنين المتحكّمين أنفسهم، الذين كانوا، وما زالوا في قيد الحياة والفعل والأفكار، والمواقف والحساسيّات، التي كانت؛ وربّما ازدادت مع التقدّم في السنّ، والخوف على ما تبقّى، من الذين تبقّوا، ويتنقّلون، أو الذين استجدّوا! فهل تستطيع الأسماء، التي اعتادت على الحضور الوهّاج، والتشبّث الشرس بما كان لديها من نفوذ، ساعدت الفصول القاتمة في استمراره، أن تترك للآفاق أن تمتدّ، وللمديات أن تترامى، وللمسابير أن تتعمّق، وللخطو أن يتمادى، وللقوادم والخوافي أن تحلّق، وللمسامات أن تتصادى؟! أشكّ في هذا؛ حتّى إن حُسبتُ عليهم؛ فالأسماء تتكرّر، والموضوعات تجترّ، في أكثر من مناسبة وموقع ومنبر، والآليّات ذاتها، والوسائل عينها، والنتيجة هي الحركة في المكان، مع غبار وجعجعة؛ ولا أقصد هنا أنّ لجميع القادمين رؤى مختلفة، وأساليب متجدّدة، وأفكار واعتقادات وآراء منفتحة؛ فهم ليسوا من الفضاء، ولم “يفقّسوا في الجرد” بعيداً عن الملوّثات والممْرِضات والمعْديات المحلّيّة والعالميّة، ولم تترك الحرب اللئيمة ومفرزاتها، ولا الحضارة المتوحّشة ونفثاتها، بيئة نقيّة، ولا جينة أصليّة؛ إلّا فيمما ندر؛ وهم قد عاينوا، وعانوا، وحوربوا، وحاربوا، ولديهم من الأمراض الوراثيّة المستحكمة الكثير، والمستولدة أكثر؛ مع ذلك؛ فإنّ من حقّهم، أو حقّ أفضلهم، أن يكون لهم شأن في الإدارة والتدبير؛ أملاً في التغيير المأمول.

لقد تراجعت الموضوعات الانفعاليّة، التي تتّصل مباشرة بالحرب وفصولها وفواقدها، وعاد بعضها إلى موضوعات الغزل، مع بعض آخر يحاول أن يغوص في الأعماق، ويحلّق في الفضاءات، ويبحث في ما وراء المرئيّات، لكنّها ما تزال قليلة، وما تزال كوى نفوذيّته الأرضيّة والفضائيّة محدودة؛ أمام الغثّ، الذي تغصّ به المجاري والقنوات، والقاعات والساحات، والنشاطات العاديّة؛ كما المهرجانات؛ فأين المفرّ؟! وكيف المنجى؟!

لا أريد أن أبدو متشائماً؛ وأنا في الواقع ما أزال أعمل متفائلاً؛ بلا تردّد، ولا قنوط، ولا تعب؛ لكنّ المشهد يبدو؛ بالنسبة إليّ، كصورة مجموعة القرى مساء، في أثناء انقطاع التيّار الكهربائيّ، ونحن نعيش هذا الواقع ثلاثة أرباع الوقت، وما تبقّى، يضاء ببعض الأنوار المتباعدة، التي تعجز، ما تزال، عن تقديم إضاءة عامّة، وليتها تضيئ ما حولها بقناعة ورضا إلى أمد يطول! 

***

غسان كامل ونوس

اترك رداً