الفئة: من أدب الرحلات
بقلم: غسان كامل ونوس
الناشر: الموقف الأدبي ع 515 آذار 2014
تاريخ النشر: غير محدد
رابط النص الأصلي: يحدد لاحقاً

..إلى دمشق
ما بين الشكّ واليقين، والشّوك والشكاية، ومن خيمة الأحزان التي استحكمت في محيط ودروب، كان الوقت يتنابز، والأخبار تتوافز عن معابر مقطوعة، ومَدَيات محاصَرة. الوصول إلى دمشق لم يكن بهذه المسؤولية على مدى الأشهر الاثنين والثلاثين من عمر الجمر المتنقّل، والاحتمالات الواخزة. لكن الطريق المغلقة منذ ساعات، وقد كانت أياماً قبلها على حافّة العبور الحرج، ستنفتح بإلهام أو توق، أو بخت يتأرجح، آنَ الانتظار يتقلقل على الحدّ القارس، الذي يهدّد الوصول إلى العاصمة؛ بل الانتقال إلى عواصم، والسفر إلى ما هو أبعد فرصة ومناسبة وإنجازاً. الطريق نفسها ستنغلق بعد قليل من العبور المشحون بالقلق والدقائق الغاصّة، والمشاهد المحفوفة بالسرعة المحمومة، وبقايا الثلج المنازِع، وبعض الآليات المنكوبة، والأصوات المدوّمة على مرمى العين التي تقبض على البريق متلبّساً، والدخان الذي يفرّ صعوداً.
*
من دمشق إلى بيروت
الفجر مبترد في دمشق؛ الجمعة 22/11/2013م، ما تزال هذه العاصمة العصيّة هاجعة بصمت، مؤشّرٌ حَسَنٌ لا يمكن إغفاله، حتّى لو كانت صبيحة عطلة، لكنّه لا يخفّف ممّا يثيره الأرق من أن تسير آلية وحدها في طريق لم تكد تخرج عن حيّز الأخبار الحارّة؛ الحرارة التي لا نتمنّاها، ويهون عندها برد صباح تشرينيّ مبكِّر، يحاول التنفّس، ليستدفئ في انتظار شمس تشرق في النّفوس، فيرتاح معها الجميع؛ ولا سيّما هؤلاء الساهرين على سلامتنا وأمننا في حواجز ومآوٍ، تعجز عن ردّ خطرٍ محدق يتجاوز الصقيع، وقد لا ينكفئ مع مشاهد تتكشّف وسفوح تتورّد.. لعلّ ذلك ما يجعلنا نغادر، ونحن أكثر أملاً بعودة أكثر راحة، آنَ تجاوزْنا الحدود في أرض لا تكاد تفترق طبيعةً ومسمّياتٍ وإيقاعات على الأسماع والذاكرة..
*
بلا استئذان دخلت المسافة بين الحدود السورية- اللبنانية ومطار بيروت حيّز الرحلة؛ لأنها جديدةٌ عبوراً، على الرغم من عدم جدّتها مدناً ومناطق، في أركان الشعور، بفصول تختلف حدّتها مناخاتٍ طبيعيةً وسياسيةً: عنجر، شتورا، ضهر البيدر، الكحالة، بيروت بمؤشّراتها المتفرّعة والمتعدّدة، تتواتر لتسمّي حاراتها المحتشدة إعلاماً وذكريات، يعود بعضها إلى غصّات في سنيّ الوعي الأولى، ويقفز بعضها الآخر إلى أيّام قريبة: هنا حدث تفجير السفارة الإيرانية!
يقول الدّليل/السائق الخبير، الذي سيتركنا بعد قليل أمام البوابة الثانية للمطار، لنتواعد على اللقاء أمام البوابة الرابعة بعد أسبوع كامل!
لم يكن ثمة فرق بين داخل الصالة الواسعة وخارجها المفتوح على الحارات المكتظّة في السفوح المنحدرة، فالبرد ما يزال قادراً على الهيمنة، على الرّغم من بروز الشمس الخجولة، وتزايد الحركة والضجيج؛ لكنّ الترقّب ما يزال يهيمن؛ إضافة إلى القلق والتشاغل بالتغيّرات الالكترونيّة للوحة المغادرة والوصول، ما يجعل شوك الانتظار بطيئ الوقع ثلاث الساعات، يتسارع قليلاً مع بدء مرحلة الانشغال بترتيبات الوصول إلى الطائرة التي ستقلع في الواحدة ظهراً؛ أي بعد ساعتين، وستحلّق ثلاث ساعات فوق البحر والرمل حتّى تحطّ مع غروب الشمس، في مطار البحرين الدولي، ويحلّ انتظار آخر يمتدّ ثلاث ساعات أيضاً، حتّى تعاود طائرة أخرى الإقلاع من المنامة إلى مسقط، التي نصلها بعد ساعة ونصف؛ لكنّ المساء كان قد سبقنا ساعتين خسرناهما لفارق الزمن؛ واحدة في المنامة، والثانية في مسقط؛ حيث بدأت معالم الشخصية العُمانية تظهر منذ أن واجَهَنا مع دخولنا الصالة شخصان بدشداشة بيضاء وغطاء رأس، مع لوحة كرتونيّة مكتوب عليها: اتحاد الكتاب العرب؛ وبدأت السلاسة تنساب ترحيباً وودّاً وألفة، لم تخفّف منها آثار أمطارٍ سمعنا بها قبل أن نطير، وأكّدها السائق الذي قال بأنّها كانت جدّية في مسقط، وشديدة مع ضحايا في ولايات أخرى، وسيقول لنا آخرون في وقت لاحق: إن للمطر في عُمان حضوراً مثيراً وإيقاعات توّاقة، تقترب من طقوس الثلج لديكم!
الضحكة كانت حاضرة لدى مضيفتينا في فندق “انتر كونتينينتال” ذي الطبقات الستّ، الذي سيستضيف اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتّاب العرب، وغالبيّة الفعاليات المرافقة، في البرنامج الحافل ثقافيّاً، وقد أعدّته الجمعيّة العُمانيّة للكتّاب والأدباء، صاحبة الدعوة.
مع مرور أوقات اليوم التّالي أخذت المشاعر تنثال ودّاً من أدباء عرب، تتجدّد معرفتهم، وآخرين نتعارف وإيّاهم برغبة وبهجة؛ وقد أسهم في تسريع وتائر الألفة الدفء العُماني الذي أخذ يفرد غلالة شفيفة عابقة على الجميع؛ لكنّه خصّ سوريّة بما نحتاج إليه –ربما- لتتحلّل أدران القلق أكثر، وتنفتح سيالات العطاء المتبادل متوافزة طوال الأيام الأخرى..
وقد شارك في افتراش الرّحابة العمانية عدد من الأدباء الذين أظهروا الكثير من الشفافيّة والأريحيّة في الحديث بحبٍّ واعتزاز عن بلدهم، وتنوّعِ سكانه قومياتٍ ومذاهب، وانسجامهم في المواطنة بلا تفريق ولا تعصب، ما أغبَطَنا، وقد شارك آخرون من فريق الاستقبال والمرافقة أيضاً في الحديث عن أشياء عديدة؛ أهمّها ما لفت نظرنا من اللّباس الذي يخصّهم جميعاً من دون الوافدين، ويميّزهم بغطاء الرأس: المَصَرّ وسواه، والرّداء الأبيض الذي يُعتمد في خياطته على مقاييس وضوابط، مع الحذاء المفتوح بلا جوارب، وهو اللّباس الرسميّ الإلزامي الممنوع على سواهم في الوظيفة؛ أما الخنجر الذي يتوسّط القامة، فهو من ضرورات اللقاءات الرسميّة التي لا يجوز تجاوزها على الإطلاق!
الوقت المفتوح في هذا اليوم المخصص للاستقبال، أتاح لنا فرصة الخروج من مسقط إلى مجمّع تجاريّ فائق التزيين والإضاءة، فائض الحركة والحداثة، في ضاحية تقع على مسافة زمنية تمتدّ نحو ثلث ساعة مشمسة، استغرقنا فيها بالطريق المميّزة المحاطة بالخضرة والزهور، والمزدانة بالأعلام التي ترفرف فوق جميع أعمدة الكهرباء المتكاثفة في كلّ جانب، أما الأبنية فتنتشر قليلة الارتفاع، مع لون أبيض يغلّف كالوشاح كلّ شيء، لا يكاد يفلت منه بناء صغر أم كبر، عام أو خاص!
لون سنكتشف شيئاً فشيئاً أنه يليق بعُمان؛ لأنّه لا يتعلّق بالجدران والمواد؛ بل يغوص عميقاً في النفوس، أو ينطلق من القلوب، ليوشّي الكائنات والموجودات المقيمة والعابرة بلا استثناء!

الافتتاح
الأحد 24/11/2013
المكان يضجّ بالحركة، ويفيض بالحيويّة، كما في كلّ افتتاح؛ الجميع مشغول، المضيفون ينشغلون عنك وبك، وتنشغل معهم وعنهم، رغم أنّ ما من مهمّة لك سوى الحضور. القاعة البيضاء بغالبيّة عناصرها: الجدران والمقاعد والستائر والمنبر.. يفترق عن ذلك أرضية مزركشة بالبنّي المحمر، وسواد آلات التصوير المتكاثفة، وثلاثة صفوف أولى من كراسٍ حمر، سيهرع لإشغالها –أيضاً- بعضٌ يهوى الصدارة بلا رصيد، على الرّغم من أنّها تحمل بطاقات تشير إلى مسؤوليّة مستحقّيها!
تتجاوز الدقائق الموعد المقرر، وتتعثّر الخطا بين قاعة جانبيّة تُدعى إليها الوفود العربية في انتظار ساعة الحقيقة، واستكمال الترتيبات، وحضور الراعي الرسمي وقد وصل بعد قليل بزيّه العُماني الأصيل الذي بتنا نتقرّاه؛ مع تطريزات مذهّبة مزيدة على المصَرّ والكندور، وفضّة فائضة على الخنجر الموشّى في جرابه المفضّض هو الآخر المربوط إلى الخصر، بإزار يزنّر قامة طويلة بوجه واسع وابتسامة عريضة.
كلّ شيء عاديّ، لكنّه محبّب ومثير؛ كلمتان للأمين العام للأدباء والكتاب العرب محمد سلماوي، ورئيس الجمعية العمانية للكتّاب والأدباء د.محمد العريمي، وكلمة مطوّلة لرئيس الجمعيّة الفرنسيّة للأدباء، ولا كلمة للراعي!
ثم كلمة للحائزة على جائزة القدس الأديبة المغربيّة خناتة بنّونة، التي تبرّعت، بقيمة الجائزة إلى البيت الفلسطيني في القدس المحتلّة. وقد أشاعت هذه الكلمة/ المبادرة جوّاً إيجابيّاً ضروريّاً للاهتمام الإعلامي الذي تلا الانتهاء من المراسم، وكان هذا لازماً للخروج من جوّ الافتتاح المربك في بعض مفازاته، وكان يحتاج ربّما إلى أمر آخر للتخفيف من تبعاته؛ فكان الاندفاع البشوش لرئيس الجالية العربيّة السوريّة في عُمان للتعرّف إلى الوفد السوريّ، وقد عوّض ذلك عن واحدة من المنغّصات التي ظلّت بلا جواب: غياب السفير السوري في مسقط، في حين حضر سفراء عديدون: الفلسطيني والعراقي، والجزائري، واللبناني.. واستمرار هذا الغياب الرسمي من السفارة طوال فترة الزيارة، هذا الغياب الذي ينسحب على الأوقات الأخرى والمناسبات الأخرى، كما أفادنا بعض أعضاء الجالية الذين رافقونا في مختلف النشاطات، وكما أشار إلى ذلك أدباء عمانيون معنيّون بحبّ سوريّة، ومشغولون بالهمّ السوري، وهذا عنوان الشعب العماني بمختلف شرائحه ومستوياته؛ ذلك ما يمكن تلمّسه وتحسّسه منذ اللحظات الأولى، وما تؤكده الأوقات الأخرى المتاحة، ولعلّ ذلك ما فتح المشهد الإيجابي أكثر على مختلف النشاطات الأخرى، ولا سيّما الاجتماعات الرسميّة التي ستبدأ بعد ظهر يوم الافتتاح المشهود.
*
بعد حديث قصير للأمين العام للاتحاد العام الأديب المصري محمد سلماوي في عدد من القضايا الإدارية، يوشّيه الودّ، وبعض الانتشاء ممّا جرى في مصر من إعادة تصويب لمسار الأحداث، ودور اتّحاد كتّاب مصر فيها، خاصة أنّ الأمين العام نفسه هو الناطق الإعلامي باسم لجنة الخمسين المكلفة بإعداد الدستور المصري الجديد، وكانت هذه الإشارة مهمّة مع إشارة أخرى أكثر أهمية، تتعلّق بسورية التي تكشّف فيها الاستهداف وغايته، بعد ما زال الالتباس الذي ساد في البداية، واُستخدم سلاحاً فعالاً في هذه الهجمة المدروسة على المنطقة، وقد فضحها بشكل سافر التهديد العلني بالعدوان المباشر على سورية، الذي أصرّت عليه أمريكا وحلفاؤها الغربيون، وتمّ تفاديه في اللحظات الأخيرة؛ فقد صار مناسباً وضرورياً ما كان محضّراً للحديث فيه بشأن ما تتعرّض له سوريّة، بعد أن افتتح الدكتور أسعد السحمراني أمين سر اتحاد كتاب لبنان الكلام في شؤون مهمّة؛ منها الموضوع السوري، إضافة إلى مواجهة الفكر التكفيري، هذا الذي سبق أن أشرت إليه في دردشة قبل الافتتاح بحضور غالبية الوفود.. وبعد تأكيدي أهميّة تلك النقاط، كان حديثي في ضرورة العودة إلى أدبيّات الاتحاد العام، ومنها أهدافه، ونظامه الداخلي، وخاصة مقاومة الاستعمار والامبريالية والصهيونية والتجزئة والتبعية.. مع التساؤل المرّ: أين نحن منها الآن في ظلّ وجود مثقفين تابعين منهزمين، يدعون إلى التدخل الخارجي في شؤون بلادهم، حتّى لو كان عدواناً عسكرياً؟! وهل صار المثقف مثل لاعب كرة محترف، يلعب ويسجل أهدافاً لصالح من يدفع أكثر، أو يسوّق أو يلمّع؟! وما هو موقف الاتّحاد العام حيال ذلك؟! كما كان التحذير من غسيل الأموال الثقافي، وضرورة أن يعود للمثقف دوره وحضوره وريادته؛ ولا بدّ من أن يكون للحلّ الثقافي مجاله في الأزمات التي تعيشها أقطارنا العربية؛ إضافة إلى أهمية أن يعود موضوع فلسطين إلى الواجهة، بعد أن كادت تغيب عن الحضور حتّى في الإعلام، وفي ضوء ذلك لا بدّ من الاهتمام بالذكرى المئة لوعد بلفور المشؤوم، التي ستحلّ بعد أربعة أعوام. وتتابعت كلمات صبّت في الاتجاه ذاته، جاءت من فلسطين: مراد السوداني، رئيس اتحاد كتاب فلسطين؛ د.موفق محادين رئيس رابطة الكتاب الأردنيين؛ د.محمد البدوي رئيس اتحاد كتاب تونس؛ الفريق عمر قدور رئيس اتحاد كتاب السودان؛ فيما اختلف عن هذا السياق رئيس الوفد العراقي فاضل تامر الذي عدّ الربيع العربي خيراً على العرب! وقد غابت تقريباً أصوات الوفود الأخرى..
وكان الانطباع العام إيجابيّاً، وقد ظهر جليّاً أن هناك توجهاً للاجتماع تمّ بشكل مرضٍ جداً، بعد أن كان إحساس بقلق كامن -ربّما- من مواقف سلبية جرى التخويف منها مسبقاً، بناء على ما كان خلال الاجتماع السابق في الإمارات، وقبله في البحرين، وقد غاب عنهما اتحاد الكتاب العرب في سورية بلا مسوّغ مقنع! وتبدّد هذا القلق تماماً خلال هذا الاجتماع الأول، ليحلّ شعور مغبط مؤمّل، تمّ تدعيمه من خلال التوادد مع غالبية الوفود، وتأكّد الأمل خلال الاجتماع التالي قبل ظهر الاثنين؛ حيث تحدّد فيه التوجيه بمشاركتنا شخصيّاً في لجنة إعداد البيان الختامي، بناء على ما قُدّم في الاجتماع السابق، مع من كان لحديثه إسهام في تركيز نقاط الاهتمام في البيان الختامي، كما جرى الحديث في لجنة لصياغة البيان الثقافي الذي يصدر للمرة الأولى هذه الدورة.
أمران أدّيا إلى اختصار الاجتماع الثاني هذا؛ الأوّل أنّ أمام رؤساء الوفود لقاء مع وزير ديوان البلاط السلطاني السيد خالد بن هلال البوسعيدي استمرّ نحو ساعة، تحدثتُ فيه شاكراً الجمعية العمانية للكتاب والأدباء على الاستضافة المميزة، وعُمان على موقفها المتّزن من الأحداث المؤلمة الجارية في سورية، من دون تحريض أو إثارة للفتن، أو دعم للعنف والمسلحين، كما فعلت للأسف دول شقيقة أخرى، وأنّ هناك غايات عميقة من ورائها، تتمثّل في إضعاف الانتماء الوطني، من خلال ضرب المنعة الثقافية للبلد، بتشويه الرموز العلمية والوطنية، وضرب الإسلام من داخله..
وقد ردّ الوزير بتجديد موقف بلاده الذي يدعم الحلّ السلمي في سورية، وأكّد أهميّة الانتماء الوطني في ظلّ وجود تنوّع قومي وتعدّد مذهبي، كما هي الحال في عُمان، مع ذلك لا يمكن الحديث عن أقليّة أو أكثريّة مطلقاً؛ بل هناك مواطنة فقط. وقد تحدث زملاء آخرون، وقد كان البادي بالطبع السيد الأمين العام، شاكرين عُمان والجمعية العمانية، وتمنّى رئيس الوفد الفلسطيني المساعدة في تأمين مقرّ للكتّاب الفلسطينيين في الأرض المحتلة..
الأمر الثاني كان مغادرة السيد السلماوي الأمين العام للاتحاد العام مسقط بعد اللقاء مباشرة، لارتباطه بمواعيد هامّة في القاهرة تتعلّق بلجنة الخمسين. وقد ترأس اجتماعات المكتب الدائم التالية نائب الأمين العام د.يوسف شقرا رئيس اتحاد الكتاب الجزائريين؛ حيث تمّ في الجلسة المسائية لهذا اليوم استكمال تسمية المشاركين في لجان إعداد البيانات والقرارات الخاصة بهذا الاجتماع: لجنة البيان الختامي، لجنة البيان الثقافي، لجنة الحرّيّات، ولجنة صياغة برقيّة الشكر للقيادة العمانية..
في مساء اليوم نفسه تمّ افتتاح معرض صور للفنان السوري المقيم في الإمارات حسن إدلبي، ومعرض الإصدارات العُمانية من الكتب التي اختار منها الأدباء ما يشاؤون بلا ثمن، وما استطاعوا إلى حمله سبيلا.
ثمّ أقيمت ندوة مهمة بعنوان: “من ملامح الثقافة العمانية” في جلستين متتاليتين، شارك فيهما باحثون ودارسون عُمانيون مع باحث هندي، وتنوّعت الموضوعات بين السياسات العمانية الداخلية والخارجية، والأفلاج، وصناعة السفن، والثقافة البحرية، والعلاقات العمانية الهندية..
كان برنامج اليوم التالي حافلاً أيضاً، بدأ باجتماع رسمي تليت فيه مسودّة البيان الختامي، الذي أنجزناه مبكّرين، لاستدراك الملاحظات البسيطة عليه، فيما كانت الزيارة التالية مخصصة لمجلسي الدولة والشورى، القلعتين الحديثتين المميّزتين ببناءيهما أدراجاً وممرات وقاعات استقبال واستراحة؛ إضافة إلى مدرّجين مجهزين بوسائل حديثة؛ حيث يغطي المجلسان نموّ السلطنة لمدة خمسين سنة قادمة، كما أفادنا المعنيون. في مدخل قاعة الاستقبال الكبرى استقبلنا رئيس مجلس الدولة، وقدّمت الحلوى العُمانية الشهيرة، والقهوة المميّزة، وبعد دردشة واستراحة، عاينّا مدرج مجلس الدولة الفاخر من علٍ، جدراناً ومنبراً وصفوفاً منحنية وسقفاً متدرجاً، قبل أن نهبط قليلاً لنتوزّع مقاعده الفخمة، ولنصبح نواباً لفترة وجيزة، كما قال أمين سرّ المجلس مداعباً! ثم تحدث عن طبيعة الحكم ووسائله في عُمان؛ حيث هناك مجلس شورى يُنتخب بكامله بلا أيّ تحديد يخصّ الشرائح الشعبية أو يتعلّق بالمرأة، وعدد أعضائه ثلاثة وثمانون، يقومون بدراسة مشروعات القوانين، ورفعها إلى مجلس الدولة، كما يقوم المجلس بمواجهة الوزراء والمسؤولين القائمين على أعمالهم؛ أما مجلس الدولة فيتألّف أيضاً من ثلاثة وثمانين عضواً، تتمّ تسميتهم من بين الوزراء السابقين، ومعاوني الوزراء السابقين، والضباط المتقاعدين، والخبراء والاختصاصيين في المجالات المتعددة.. وهو الذي يقر المشاريع والقوانين، ويرفعها إلى السلطان للمصادقة عليها، أو ردّها. فتح المجال للأسئلة بلا سقوف؛ كان لي فيها نصيب؛ حيث استفسرت عن طريقة تشكّل الكتل في المجلسين في ظلّ عدم وجود حياة حزبيّة، وهل تمّ نقض قرار اتّخذه مجلس الدولة؟! وقد لا حظت عدم الحرج من وقع السؤالين الجريئين، كما أكد الزملاء لاحقاً، وكان الجواب: إنّ كلّ نائب كأنّه حزب، وتجري التكتّلات حسب الأمر المطروح وفاقاً أو خلافاً، ومن حقّ السلطان طبعاً ردّ أيّ قانون إلى المجلس؛ لكنّ ذلك لم يحدث حتى الآن!
كانت أمامنا فرصة للوقوف دقائق على مساءلة وزير المالية في مجلس الشورى؛ حيث قُطعت المناقشات ليرحّب السيد رئيس المجلس بالأدباء العرب الذين حضروا لمعاينة أسلوب الحكم في السلطنة. تقوم كتلتا المجلسين الرحبتان ذاتا الترف الكامن والمشهد الفخم بشكل متناظر، يصل بينهما ممرّ عريض مميّز بطول نحو مئة متر مع قاعة للاستراحة، توقفنا فيها، وتناولنا بعض الضيافة شراباً ومعجّنات، قبل أن نغادر منتشين بما رأيناه في صرحين هائلين، روعي في إنشائهما الطراز العمراني العُماني، وأنموذج القلاع التاريخية العملاقة: الحجارة والقناطر والأبواب والممرات والفسحات والتهوية والإضاءة..
في المساء، وفي جلسة رسمية سريعة، تليت مسودّتا البيان الثقافي، وبيان الحريّات، قبل الانتقال إلى افتتاح معرض للوحات التراثية من تنفيذ فنانين عُمانيين.
بعدئذ حان موعد افتتاح مهرجان أبي مسلم البهلاني للشعر، الذي ابتدأ بفيلم وثائقي عن الشاعر العَلَم، سيرة ومحطات وأفكاراً واهتمامات وإصدارات.. ثم قرأ شعراء عديدون من عُمان وأقطار عربية أخرى قصائد في جلستين متتاليتين، استمرّتا حتّى ساعة متأخّرة، كدنا نفقد بعدها وجبة العشاء، إلّا من سارع إلى المطعم الذي يغلق أبوابه في العاشرة والنصف، حتّى قبل انتهاء الوجبة الأولى من العرض الشعري!
الوجبة الشعرية الثانية كان موعدها مساء اليوم التالي: الأربعاء، وكان لي في جلستها الأولى –مع عدد آخر من الشعراء العرب- مشاركة أثيرة وحضور باد، كما أكّد ذلك باحترام، الكثيرون ممّن استمعوا باهتمام، كنت قادراً على ملاحظته في أثناء القراءة، ما دعاني أكثر ربّما إلى الإلقاء بانسجام واندغام مع الحالة التي طوّفتْ في أجواء التساؤل والمرارة والقتام، واستغورتْ أعماق النفس المقهورة والحواس المتوفّزة، بتواتر وإيقاع واحتشاد.
وفي يوم الأربعاء أيضاً اُستكملت في جلستين صباحية ومسائية الملاحظات على البيانات والقرارات، التي تمّ إعلانها مساء في مؤتمر صحفي حافل. وقد جاءت نتيجةَ التنسيق والتدقيق والمتابعة والتفاهم التامّ بين وفود كتاب سورية ولبنان وفلسطين والأردن والجزائر وتونس ومصر والسودان وموريتانيا وعُمان، مع الأمانة العامة؛ فيما اكتفت الوفود الأخرى بالموافقة وإبداء ملاحظات عابرة في الصياغة والمصطلحات، وقد لاقت هذه الجدوى ارتياحاً كبيراً، وخاصة لدى أفراد الجالية العربية السورية الذين عبّروا عن ذلك، وأعلنوا عن شعورهم بأنهم كأنما يستمعون إلى إذاعة دمشق!

الرحلة البحرية:
رغم احتشاد الأوقات بالاجتماعات والنشاطات المتنوعة، فقد كان للرحلة البحرية نكهتها الخاصة في الترقّب منذ الاطلاع على البرنامج العام.
فبعد الانتهاء من التصويت على القرارات والبيانات مع بعض الغصات التي ألحّ بعض في إفرازها بلا مسوّغ أو تقبّل؛ إلا أنها تنمّ عن داخل قاتم، فيما كانت الإنجازات تمضي في مسارها الرضيّ..
كان التهيّؤ للتجمّع على متن “فُلك السلامة” السفينة المميّزة التي يتجاوز طاقمها ثلاثمئة بحار، وقد كانت إلى حين اليخت السلطاني، قبل أن تخصّص لمرافقة اليخت الأكثر حداثة!
سُلّمٌ وسلالم، قاعة داخلية عليا متطاولة مع تفرّع قائم في نهايتها، وطاولات وكراس أمام جدران ونوافذ بللورية.. استراحة بسيطة، صعود إلى سطح السفينة المكوّن من جزءين؛ أحدهما مكشوف مسوّر بشبك حديدي حصين، يجري فيه التنقّل والتصوير والتجمّع والمرح، ويمكن معه متابعة عمليّة إقلاع السفينة بمساعدة قاطر ضخم، وحبال غليظة، تمّ جرّها إلى خارج ميناء مسقط، ثم تركت وحدها تسير محاذية للجبال الناهضة بتحدّ والمنحدرة باستفزاز، بعضها محاط بالمياه من كلّ جانب، مع بعض المنشآت فوقها: قبب، ومنتجعات، وقرى سياحية، ومدرجات مخضرّة.. وكان للشمس الحادة، مع رطوبة تزيد الإحساس بالحرارة، دورهما في المناورة بين المناظر الأخاذة زرقة وتلالاً من خلال الإطلالة المكشوفة، والطلاوة والعذوبة في الجزء المغطّى، أو المكوث على حواف الظلّ المتبدّل ببطء، كيلا يشوّش على متعة ضافية تستطيع تلمّس شآبيبها بلا عناء. الكراسي المتنقلة، والجيران المتناوبون، والألفة والودّ.. كلّ ذلك لم يمنع؛ بل يمكن أنه ساعد في متابعة الأحاديث الجادّة، وتأكيد المواقف والأفكار الملحّة في أنّ ما يجري في سورية مختلف عن الأقطار العربيّة الأخرى بشكل أو آخر؛ فهو مدبّر ومحضّر ومموّل من الخارج، مع معلومات ومؤشرات وحوادث، واستعداد للشهادة أمام أيّ لجنة تحقيق دولية، كما أكّد المهندس المعماري العراقي علي التويني..
بسلاسة مرّ الوقت الماتع المغتني بجدّيّة ومسؤوليّة، بمحاذاة التلال البارزة، التي يستقر فوق بعضها القصر السلطاني بحصانة المياه المحيطة، والحدود القاطعة الأخرى القريبة، وصرامة الجبال البعيدة، وقد فاتتنا مشاهدة بعضها للانشغال بحوار جادّ، وانهماك بقضايا حارّة ضاغطة، حتّى إن الغداء الساخن تسلّل بوقته ومفرداته إلى الموقف بلا ضجيج، ولم يستدعِ سوى بعض الانتقالات القريبة إلى عمق الصالة؛ حيث تكوّمت بأناقة وجاذبية وتميّز أنواع وأشكال من الأطعمة الفاخرة المعدّة خصيصاً، والفاكهة الشهيّة والشراب المنوع، وإعادة التموضع حول المناضد المتطاولة، واستئناف ما يمكن تسميته غداء حوار ومتعة، في رحلة شكّلت علامة فارقة استغرقت ساعات أربع، وثلاثة عشر كيلومتراً، واستمطرت شآبيب ألفة منعشة مؤمّلة من المشاعر العربية الحثيثة في بحر عُمان، عبر الزرقة العُمانية المتكاثفة في بحر العرب!

في الطريق إلى بهلا:
لا شكّ في أنّ من غادر مسقط من أصدقائنا أعضاء الوفود قبل الرحلة إلى بهلا قد فاتته أشياء، وهم ليسوا قلة، ما جعلنا نلتمّ في حافلة واحدة، بيضاء هي الأخرى!
فمنذ انطلاقتنا الصباحية الهادئة السلسة من جوار الفندق في الشوارع الرئيسة التي بدأت تكتظّ، كان بالإمكان التعرّف إلى مشاهد جديدة، لم يُتِح لنا عبورُنا السابق في اتّجاه المناطق المسؤولة أن نتقرّاها. وقد كان الخروج من مسقط أكثر انسيابية وشغفاً؛ فالطريق منتظمة تشبه تلك التي قطعنا جزءاً منها أوّل الزيارات: تزيين، وكثافة أعمدة، وإشارات تُوزِّع الآليات في حارات، وتُفَرِّق، عند تقاطعات ودوّارات لا تنقصها الزينة والجمال، جوارَك، وقد رافقتك الخضرة زمناً، بعد أن أودعتْك إياها المباني البيضاء غير المحتشدة، قبل أن تخفّ حتى تتلاشى، وتتقارب تضاريس مميّزة بحدودها وتشكّلاتها الحادة، تظهر من بعيد، ويشحب الجوار، لكنّ الطريق تحافظ على سلاستها، حتّى بعد أن بدأت تحاذي سفوحاً سرعان ما تنهدّ صوبَك، كأنّما دست أطرافها المشدودة إلى “يذبل”! وتمضي في وديان، أحدها تجري فيه المياه بالقرب من شجر يتباهى بحضوره، سيكون مقيلاً لعائلات تطلب الراحة والطراوة، كما أخبرنا المرافقون، وكما تسنّى لنا معاينة ذلك في أثناء العودة. تتناثر القرى على مقربة من الطريق الّتي ما زالت تتلوّى في بعض المنبسطات. وعورة قادمة تنتصب أمامنا، تشكّل “الجبل الأخضر”، الاسم الذي يواسي واقعاً شاحباً، ويرجّع أصداء نداوة وخضرة كانت، ويبشّر بما هو آت، من خلال مشاريع وإنشاءات تبدو طلائعها من على الطريق التي تتباهى فيها لوحات طرقيّة مميّزة، تسمّي مفارق وقرى تتناوب في الجانبين، بغابات نخيل تتكاثف وتتبدّد في مساحات متاحة قليلة، فيخطر ببالي أن أهاجسها: بهلا قصدُنا وأنت السبيل! وتتأرجح في الذاكرة شآبيب أسى وتوق إلى من كانت السبيل، وما تزال، هناك في القلب الراجع إلى الشهباء والفيحاء بعد قليل/كثير!
لكنّك تحسّ بخجل حين تطلّ نزوى بملامحَ عاتبة لإهمالنا عاصمة عُمان في أزمنة خلت، لكنّها سرعان ما تبتسم حين تقول: سأكفّ الملام، ونعلّلكم؛ لأنّكم في بهلا الأقدم منّا بعصور!
في الطريق تحدّث أصدقاء عُمانيون شارحين ما نرى، متوافقين كثيراً، ومختلفين حول مسافة وجهة، لكنّ الاتّفاق تمّ أخيراً على أنّ المسافة التي تفصل بهلا عن مسقط هي بحدود مئتي كيلو متر، وأنّ الجهة هي صوب الغرب، مستعينين بالشمس الشارقة، وتموضع المسجد الذي نعبره ومصلاه ومحرابه! وكان لملاحظة سائق الحافلة الشاب حين رآني: “سوريّة الصامدة معنا؛ أعزّ الله سورية وحاميها!” أثرٌ عزيز، كما أضاف الحديث الأدبي العميق والسياسي المتبصّر مع الروائي العراقي د.طه الشبيب الكثير من الزاد والمعنى لهذه الرحلة، حتّى قبل أن ندخل التاريخ من الباب الواسع لقلعة بهلا.

قلعة بهلا:
كنت قد تحضّرت نفسياً للاندهاش بالقلعة الأثرية التي كثر الحديث عنها، وهذا ما يقلّل في العادة من حدّة التأثّر التي يسبّبها المشهد المثير حقّاً؛ لكن ما أدهشنا حقّاً، وفاجأنا، الاستقبال الحافل على مدرج القلعة الحجريّ العريض؛ عشرات من القامات البيضاء الناصعة على خلفيّة بلون ترابي ما بين الحمرة والصفرة، في مقدّمتهم رئيس الجمعية العُمانية للكتاب والأدباء د.محمد العريمي، وغير بعيد صعوداً، وحين تدخل البوابة الواسعة، تجد في انتظارك فرقة شعبية: لباس موحّد بلون ترابي مماثل للون القلعة مع المزامير، والطبول، ولعب السيوف، والأهازيج المحبّبة المنشّطة المحفّزة بإيقاعاتها الرشيقة للمشاركة في الرقص، لولا بعض خجل.
لكنّ كلّ ما في الجسد ظواهره ودواخله، بدأ يختلج مواكبة ومباركة وحماسة، وكانت المبارزة بين يافع وهرِم تزيد من حمّى الحماسة، حين يرفع الأخير سيفه الطويل أمتاراً في السماء، ويعود لالتقاطه من مقبضه واستئناف المواجهة الضاجّة!
لا بدّ أن نتجاوزها بعد توقّف ماتع، وتوقّف آخر بعد لحظات في مدخل ظليل، يخفّف عناء الشمس الحارقة، ما يخالف -اليوم على الأقلّ- ما تمّ التحدّث به مراراً: إنّ درجة الحرارة تنخفض هنا إلى ما يقترب من الصفر.
الحلوى العمانية تستقبلنا في كلّ مكان، وشراب بارد وساخن، وأنواع من التمور المميّزة، والفرقة ذاتها بالإيقاعات عينها، وترحاب وابتسامات وحبور، وانطلاق أكثر حماسة، لنلتقي الفرقة أيضاً في فسحة ترتفع مسافة مهمة.
توقّفٌ من جديد للاستماع إلى الدّليل الذي يتحدّث بمعرفة وتفصيل واعتزاز عن محتويات القلعة وتفصيلاتها وتاريخها، قبل أن ندخل الجزء العلويّ المكرّس للسلطان الأقدم؛ قاعة استقبال مع رفوف خشبيّة عديدة، تعبر عن أهميّة أكبر، مصلى للرّجال ومكان مميّز للإمام، ومصلى لحرم السلطان، وأماكن للوضوء، وأسقف ومناور للإضاءة والتهوية، ومصارف أمطار إلى آبار سيعاد استثمارها لاحقاً. وفي القلعة كنوز لم تظهر بعد؛ فقد اكتشف حديثاً قبو بكامل المساحة تحت القلعة، وهذا يظهر براعة الإنشاء والتصميم والتنفيذ. وما لفت نظري –بتأثير من مهنتي الهندسية ربما- أنّ قلعة بهلا تمثّل أعلى بناء أثريّ معروف مكوّن من الطّين، وقد لوحظ في بعض الأساسات التي انهارت أبنيتها بفعل الزلازل والأمطار، بعض الأحجار السود المغموسة في التربة.. ما يظهر أنه حلّ اُعتمد لاستناد الكتل الكبيرة من التربة التي تمثّل الأعمدة والقناطر والسقوف الخشبية التي يعلوها الطين أيضاً. لقد استمر ترميم القلعة اثني عشر عاماً، كما أفاد الدليل، وانتهت مراحله المهمّة منذ نحو سنتين، ويظهر أنه تمّ بتقنيّة مناسبة، وروعي في ذلك اللون والكثافة، والقشّ الذي يخلط عادة مع الطين لزيادة تماسكه. وفي أثناء مغادرتنا أبنية القلعة، رافقتنا الصنوج والطبول والأناشيد التي استقبلتنا، وبالحماسة ذاتها، فيما كان الدليل يأسف لأنّنا لن نستطيع المرور بجميع منشآت القلعة، كما لن نستطيع زيارة السور الذي يرتفع أمتاراً من الطين أيضاً، وبطول يصل إلى ثلاثة عشر كيلو متراً، وقد بدا في إحدى الجهات بعض معالمه القريبة.

مكتبة الندوة العامة في بهلا:
غير بعيد عن قلعة بهلا، كان بناء أنيق حديث يفاجئك منظره الأبيض، كما الأبنية الأخرى في مسقط، لكنّه يتميّز عن أبنية بهلا التراثية. استقبال راق، وقاعة صغيرة كلّ ما فيها أبيض، منبرٌ، ومُنشدٌ يرحّب على طريقته، وضيافات معهودة: حلوى عمانية ومحلّيّة، وتُمور، وشراب.. ودروع للوفود، وكتب هدايا المكتبة لضيوفها، وسجلٌ لتكتب انطباعاتك.
كان وجود مثل هذه المكتبة بمحتوياتها القديمة المتجددة مهمّاً في بلورة قضيّة استمرار القديم بالحديث، واستثمار التّراث في إضاءات وإشعاعات وفق تقنيّات معاصرة. ولعلّها واسطة العقد بين معلَمَين هامّين؛ أحدهما انتهت زيارته توّاً، والآخر على مبعدة دقائق وأمتار وترقّب؛ حيث القرية التراثيّة.

القرية التراثية في بهلا:
لم يختلف اللون الترابي الداكن، ولم نبتعد كثيراً عن القلعة، ولا عن الجو التراثي الذي يكاد يصبغ المدينة العريقة؛ لوحة تدل عليها، نفترق بضعة أمتار عن الطريق العامة، ونتوقّف أمام بوّابة مشرعة، وبضعة أشخاص لا يقلّون دفئاً باللباس العماني الأبيض المميز، متحفّزون يافعون، ورجال مرحّبون، وكهل يرحّب أكثر؛ صاحب الفكرة والجهود الشخصية والتكلفة كلّها، بعد عمل وظيفي في وزارة الثقافة والتراث عقوداً ثلاثة مسؤولاً عن التراث، فتمثَّلَ الحالة، وارتأى أن يقيم هذه القرية بأجنحتها المتعدّدة التي لمّا تكتمل؛ القاعة الكبيرة التي دخلناها حفاةً منجزةٌ من أشجار النخيل، جدراناً وسقوفاً متّصلة، جلسنا على السجاجيد المبسوطة، لنعيش الحال التراثيّة كما يجب، المنسف فصل أساس في هذا المشهد. الكرم بادٍ في الملمح والمادّة. يتبدّد بعض القلق؛ ملاعق وصحون في الطريق إلينا، لمن يرغب، سَلَطة وفواكه وعصير.. هذا من لطف ربي؛ لأنّها وجبتي السريعة، قمت بعدها، تساءل المضيفون والجيران أصدقاء الرّحلة؛ ضحكتُ مسوّغاً: فطرتُ جيداً!
تشاغلت في غرفة صغيرة مجاورة من الخشب ذاته، احتشدتْ فيها أدوات مميّزة من التّراث: الصندوق الخشبي الذي يرافق العروس عادة، الأمر ذاته كان لدينا. الحال من بعضه إذن، كما أكّد قبل قليل، ولأكثر من مرّة، الأستاذ غالب حمزة، أحد أفراد الجالية السورية في مسقط، مرافقنا في غالبيّة النشاطات، فيما كنّا في القلعة: هذه دلائل على وحدة حقيقية، قبل أن تكون شعارات..
سيكمل صاحب القرية الحديث في صالة أخرى قرينة للأولى، لكنّ فيها طاولات ممتدّة، وكراسيَ مصفوفة ومضبوبة بانتظار المزيد من الضيوف الذين يتوافدون دائماً إلى هنا. الشراب الساخن والبارد، وابتسامات الرضا الدافئة، وحيويّة أمّ العروس.. أيضاً وأيضاً!
سينفّذ أجنحة بحريّة وزراعيّة وصناعيّة محليّة.. يقوم ببناء غرف عديدة لإيواء السيّاح والرحّالة؛ فلا فنادق في بهلا! وسيكون ممكناً استثمار فعاليّات القرية المتنامية لمن يرغب من المواطنين.
كنا نتمنّى ألا نغادر؛ لكن إلحاح الوقت حرمنا من متابعة المتعة، كما حرمنا قبل قليل من زيارة الجامع الأقدم في عُمان، وقد بدا بعض منه في ظاهر هضبة مجاورة للقلعة، وهو مبنيّ من الطين أيضاً؛ فأمامنا سفر ساعتين، ووقت قصير تتحضّر لنوع آخر من المتعة القديمة المتجدّدة.
من بهلا إلى مسقط:
لم يكن ممكناً التفريط بأيّ لحظة من الزمن الذي يمضي إلى عنق الزجاجة، آخر أمسية في عمان، وإذا كان الزملاء قد انشغلوا بحوارات وطرائق لا تخلو من فائدة، فإنني آثرتُ التشبّع من هذه الأرض الطيّبة، فانتبذت لنفسي مكاناً جوار السائق الشاب الآخر، وقد حلّ محلّ زميله الذي ودّعنا بتأثّر في بهلا، من دون أن أعرف اسمه. لم يكن بديله أقلّ لطفاً، لكنّه أقلّ اهتماماً بالركّاب؛ فالسماعة في أذنيه، يمضي إلى عالمه، ومضيت إلى عالمي مكان المرافق الغائب، ورحت أتملّى كلّ تفصيل يتفلّت من أحاسيسي في طريق العودة، ليَثْبتَ في الذّهن ما مرّ منه في رحلة الذهاب، وليتمّ تقرّي التضاريس واختلاف ألوان السفوح المتقاربة، حتّى لتكاد تخنق المعبر بحارتيه المتضاغطتين بين جبلين حادّين.
لكنك لا تخشى حدوث ذلك؛ لأنّ لهذه الجبال ما يشبهها علوّاً وألواناً ووعورة وتجرّداً، اعتدتَ أن ترافقها وتخترقها، حين تخرج من دمشق في اتجاه الساحل. وحين تخرج في اتجاه آخر من دمشق، كما فعلتَ في بداية الرحلة هذه. هناك جبال حادّة هي الأخرى، لكنّها تختلف مشهديّةً ومناورة عن هذه الجبال المديدة المتعرّجة التي لا تكاد تختفي، ولا تملّ لعبة الاقتراب والابتعاد، التعالي والانخفاض؛ تسلية استهوتْني، فانشغلت، وتشاغلت بأوراق بيض صغيرة، كنت حملتها للحظات ماتعة كهذه.
غابات النخيل تتكاثف وتتفرّق جوار قرى متباعدة ومتناثرة. فتفكّر مليّاً في الكيفيّة الّتي يحصل فيها أبناء القرى على قُوْتِهم؛ فالوعورة في كلّ مكان، والانبساط قليل؛ يقول الصديق الأليف الأديب العُماني سعيد الصقلاوي، حين جاهرتُه بهواجسي، حين توقّفْنا لوقت قصير في إحدى محطات الوقود: من الزراعة ولا سيما النخيل، والوظيفة. وتساءلت عن كلفة الموادّ وأسعار الإنشاء، التي يعرفها بخبرة المهندس وممارسة الخبير، وأنا ألاحظ اهتماماً بالأبنية القرويّة التي لا تزيد عن طابقين إلا في ما ندر!
شدّتك الطريق إلى انسيابتها مرّة أخرى، وأنت تلاحظها عن قرب، كما لفتتك الآرمات التي تعرّف بالقرى والمفارق، ولكنّ فيها نقصاً نسيت أن تقوله للمضيفين: نادرة هي اللوحات التي تشير إلى الأبعاد والمسافات! ونسيت أن تبدي إعجابك، بحكم اختصاصك أيضاً، بأسلوب حماية الطريق من مياه السفوح المطريّة الهادرة من علٍ؛ حيث يتمّ استيعابه في مستويات متفاوتة الارتفاع، وترويضه في مساكب مخصّصة لذلك؛ لكنّك لم تنسَ أن تعبّر لهم عن الشكر والامتنان مرّات ومرّات، مخافة أن تكون قد قصّرت في ما يستحقّون!

في دار الأوبّرا السلطانية:
كان في البرنامج المعدّ لهذا الأسبوع الثقافيّ السياحيّ المميّز زيارة الأوبرا السلطانيّة؛ إضافة إلى حضور “إحدى العروض الأوبّرالية” لفرقة قادمة خصيصاً لذلك؛ لكنّ الأمرين تحقّقا معاً، فخسرنا فرصة الاطّلاع عن كثب على هذه المنشأة العمرانية الباذخة؛ فالفترة القصيرة التي تسبق العرض، والاستراحة التي تتخلّله، لا تسمحان إلا بقليل من المشاهد والكتل الخارجية؛ إذ إن الأعمدة الشاهقة، والبوابات العريضة، والتفاصيل المعمارية في الأسقف، والعناصر الحاملة والإكسائية، والأبواب والنوافذ والأدراج تستزيدك استشعاراً وتساؤلات، وتستثيرك دهشة في الإتقان والانسجام والتنوّع.. هذا الذي يحتاج إلى وقت واستبطاء وتقرٍّ باللمس، على الرّغم من أنّ الأضواء الّتي توشّي الفراغات والجدران والعتبات والعناصر البارزة والمخفيّة… لا تقصّر في منح متعة بصرية ضافية؛ إضافة إلى تأمين مشهديّة مميّزة؛ لكنّها تبقى عاجزة، وهي تغطي بخصوصيّتها وقصديّتها على بعض المشاهد التي قد تمنح جمالاً آخر مغايراً، في الأوقات النهارية.. بيد أنّ ما تستطيع استخلاصه منذ الإطلالة الأولى، أنّك أمامَ عمل هندسيّ ثقافيّ متكامل: كتلة، وإنشاء، وعمارة، ووظيفة.. يتأكّد ذلك لدى دخولك إلى قاعة المشاهدة، وتفرّسك في الشرفات الجانبية الكثيفة والسقف والمدرج العُلوي! وتفاصيل ما هو قريب منك، مع الإنارة الظاهرة والمخفية، واللوحات الالكترونية، والستارة، والأصوات التي تبعثها آلات تتحضّر غير بعيد، في مقدمة الصالة الفسيحة، وقد بدأت تحتشد بالجمهور الذي سبقَ أن كوّنتّ فكرة هامّة عن شرائحه وطبيعته وانتماءاته من اللّباس الأنثويّ تحديداً -لأنّ اللباس الرسميّ مطلوب بصرامة- إضافة إلى السحنات، واللغات؛ بل اللّهجات.. منذ دخولك الباب الخارجي؛ بل منذ خطوك في الممرّ الذي يؤدّي بكم جميعاً إلى دار الأوبّرا.
وممّا لفت نظرك أيضاً ومنذ الوهلة الأولى، الحرص الأمنيّ الشديد، بلباقة، والحرص الوطني من خلال فتيات يقفن بلباسهنّ الخاصّ بجدّية ومرح وثبات، في أكثر من بوابة ومنفذ، وهناك مرشدات ومرافقون وأسهم عبر الممرات التي قد يضيع فيها من لا يسأل!
الحرص على الوقت، فإغلاق باب القاعة تمّ في السابعة تماماً، والاستراحة استغرقت ثلاثين دقيقة بالضبط..
أما التقنيّات الحديثة فمتوقّعة بعد كلّ هذا الترف الشامل؛ لكن أن تكون الترجمة على خلفيّة الكرسي أمامك، وعلى لوحة أخرى مدلّاة من السقف فوق المسرح، وباللغة التي ترغب بها، فقد يكون أمراً جديداً!!
الجديد الآخر أنّك حضرتَ عرضاً أوبرالياً عالميّاً مميّزاً ليس جديداً، للمرة الأولى، في قاعة فاخرة وبمناسبة مميّزة، وقد كان خلاصة قيّمة تليق بزيارة إلى بلد عزيز عريق، كنت تتمنّى أن لا تنتهي!

العشاء الأخير في مسقط
لم تكد تمضي الساعات الثلاث من عمر الأوبّرا المميزة في الدار المميّزة، في الوقت الحرج، وبصحبة كثيرين ممّن رافقونا في معظم الفصول، وافتقدناهم في بهلا، حتّى غادرْنا بانبهار وإرهاق، واعترافات من بعض، وكتمان من آخر، بأنّ النّعاس قد استرق قدراً من أويقات المشاهدة، رغم الأداء الأوبّرالي الصارخ. ومنا من لم يخجل في السؤال عن اسم الأوبّرا، واللغة التي كانوا يتغنّون بها؛ ربّما كان ذلك بسبب التّعب الذي ألحّ، بعد الرّحلة النّهارية الماراثونية الماتعة، أو بسبب الجوع الذي لن نجد إلى سدّه سبيلا، بعدما فاتنا العشاء الأخير في مسقط، نتيجة انقضاء الموعد المحدّد لذلك في مطعم الفندق؛ على الرّغم من استعداد المعنيّين للتعويض عن ذلك في أيٍّ من مطاعم المدينة، أو استحضار المطلوب عن طريق خدمة الغرف. لكن بدا للكثيرين، ونحن منهم، أنّنا سنزيد من أعباء الأصدقاء العُمانيين، في هذه الأوقات الأخيرة، هم الذين تحمّلوا الكثير، ليجعلوا تعبنا مثمراً، وهم ما يزالون في حيويّتهم واندفاعهم؛ فهم أبناء البلد، ويعرفون الكثير؛ أمّا نحن فقد شاغلتْنا الإثارة والجدّة والمتعة؛ لكن مشاعر إضافيّة ضاغطة لا يمكن تجاوزها؛ إذ إننا سنفتقدهم بعد قليل، كما سنودّع الأصدقاء الذين سيتفرّقون قريباً إلى غرفهم، وسيغادرون تباعاً إلى بلدانهم، وفي أوقات متقاربة؛ أمّا نحن، فيمكننا المبيت ساعات معدودة، قبل الرحيل في الخامسة فجراً..
يتفرّق الأصحاب بمداراة، تهرّباً –ربّما- من عناء الوداع الذي قد لا يكون بعده لقاء، مع أنّ الأمل يبقى سبيلاً للتخفيف عن حدّة المواقف!
الوقت يغيب باطّراد، وأمامك توضيب للأغراض وتحضير الحقائب، ولا سيّما ما استجدّ من كتب نتاج الأصدقاء العرب، أو ما اصطحبتَه من المعرض المفتوح للإصدارات العُمانية، وقد تُضطرّ إلى ترك بعضه، الأقلّ فائدة، وليس الخيار هيّناً!
وعلى الرغم من كلّ ذلك، وفيما كنت تهمّ بالذهاب إلى المصعد الذي سيقلّك صعوداً للمرّة الأخيرة، يبادرك الصديق الأقرب، مع وفرة الأصدقاء في هذه الـأيام الثرّة، الصقلاوي أيضاً، عارضاً عليك ما كنت قد دردشت معه بشأنه، قلت: ألم يتأخّر الوقت؟! قال: هناك محلّ يفتح إلى ساعة متأخّرة؛ أنت وحظّك! لم تكن لترفض؛ بل لم تستطع أن لا تبتهج؛ فالعرض مغرٍ؛ فرصة أخرى/أخيرة للتجوال في مسقط. لن يفوّت عليك “السعيد” مثل هذه الفرصة؛ بل أفاض عليها الكثير من الوقت والأمكنة، والأهمّ ما فاض من روحه في قصيدة مؤثّرة بعنوان: سوري. تمجّد قوّة التحدّي الذي يمثّله الشعب السوري حاضن الجيش العربي السوري في مواجهة عدوان شرس، وأدوات متعدّدة، يجمعها الشر والحقد وضعف المناعة والانتماء والوعي؛ قال بانتشاء، وهو يقرؤها من جهازه الخلوي: كتبتُها بعد معركة القصير! كنّا ندور في الشوارع المزيّنة بحبال كهربائيّة، وأشكال متنوّعة تميّزها، أحاول توثيقها ببعض الصور. وكانت رغبته أن نزور المقارّ الرسميّة العليا، ندور حولها إضافة إلى وزارات سياديّة أساسيّة، من دون أيّ مظاهر مستفزّة، ولم يعترضنا أحد. قال الرجل: ما رأيك أن تنزل وتأخذ بعض الصور؟! قلت: ماذا يقولون عن رجل يصوّر مواقع حسّاسة في ساعة متأخّرة من الليل؟! ضحك الرجل؛ كأنّه يقرأ ما أفكّر فيه، قياساً على أحداث الساعة في أقطار عديدة من بلاد العرب. قال الرجل: اسأل ما تشاء! سألت بلا حرج، وأجاب بلا تردّد. وكانت ساعة من العمر هنيّة غنيّة ماتعة أخيرة كافية أن تكون بديلاً عن العشاء الأخير في مسقط.
أوان الرحيل:
ساعتان لا تكفيان للنوم، وأمامنا طائرتان وعاصمتان، وعاصمة أخرى أعرق العواصم، تثير المشاعر، والتساؤل عن أخبار الطريق منها وإليها.. فكيف يكون النوم؟! وكيف لا يكون قلق؟! وكيف تستطيع تمييز الأحاسيس، وها أنت تغادر شبه وحيد، بعد أيام ضاجّة بالحيويّة والاغتناء والإنجاز؟! حتّى مطار مسقط كان شاحباً بطيء الحركة في فجر يوم العطلة الأسبوعي؛ أو هذا ما بدا عليه، بعد أن أقلّنا سائق انتظرناه بدل أن ينتظرنا، استدعي من نومه على عجل؛ فربّما ضاع موعدنا من بين مواعيد عديدة غادر فيها أصدقاؤنا خلال ما مضى من وقت غصّ إلى درجة الاختناق، أو هذا ما كنت أحسّ به، ونحن نمضي في الطريق إلى المطار أسرع مما تصوّرت؛ فلا حركة ولا بركة، كما كانت الحال عليه منذ أسبوع مضى. الشارع المزيّن هو الآخر، الذي كان يضحك حينئذ، ها هو يستودعنا ذكرياتٍ وأوقاتاً نابضة، يبدو ساهياً كأنما يحلم أو يداري، والأضواء خافتة أكثر ممّا نظنّ، وأشجار القرم لا تبدو كما يجب، رغم أنّها واقفة في وداعنا، جامدة؛ في حين كانت تهمّ بالرقص، حين كنّا نجدّ في طريقنا إلى مسقط. ومع مرور الوقت الذي يفصلنا عن التحليق، وفيما الصبح يتنفّس في الأرجاء، كانت تعتمل في النفس إحساسات ضاغطة تختلط فيها الغُصّة بالانفراج، الخسارة بالربح؛ الأسى بالأمل؛ فأنت على وشك أن تغادر بلداً أحببتها، وأناساً محصّنين باللطف والرّقة والألفة والهدوء والرضا، وفي هذا خسارة لا شكّ في ذلك، لكنّك تعرّفت خلال أيام معدودة، إلى أصدقاء من عُمان وباقي البلاد العربية، وفي هذا اغتناء ورصيد، وأُنجزتْ بيانات وقرارات ستكون برنامج عمل لمرحلة هامة قادمة لها أثرها، أو يُفترض أن يكون لها صدى إيجابي في مواجهة مصيريّة، وهذا مكسب أيضاً يجعل للهفة العودة واستسراع الوصول مسوّغاً. وفي المنامة سنربح ساعة بفعل فرق التوقيت، وهذا ما يخفّف من معنى الانتظار، غير أنّ للساعة الأخرى التي ستكتسب في بيروت قيمة أخرى؛ لأنّها ستتيح قدراً أكبر من النهار أمامنا لمغادرة لبنان قبل حلول المساء، وهذا ربح أكيد. غير أنّ ما ينغّص هذا المعنى، أنّ خيار طريق العودة لم يحسم؛ فهل من الأجدى أن تعود إلى دمشق كما هو مخطّط، في السيارة التي تنتظر في المطار، فتخضع لأمر الطريق المقطوعة منذ أيّام، واحتمالات فتحها وعبورها الشائك، أم يمكن أن تسلك طريقاً مختصرة إلى طرطوس، لا تقلّ خطورة واحتمالات قاتمة؛ لأنك ستعبر طرابلس التي تشهد أحداث عنف متنقّلة ومتواترة؟! ولم يكن الأمر قد حسم تماماً، حين تساءلت مع السائق الذي لم يتأخّر كثيراً، وقد كان لانتظاره في المطار معنى مختلف، عن مركز الانطلاق إلى طرطوس، فقال إنه قريب من خطّ سيرنا، وحتّى حين كانت أغراضك تستقر في السيارة التي ستقلك إلى طرطوس، تردّدت في الاختيار، حين علمت أن يوم أمس لم يكن عادياً في طرابلس، على الرغم من تأكيد السائق أن قدومه اليوم كان بلا مشاكل، وسيعود حتماً؛ فأسقط في يدي، وقعدت أنتظر مع راكب آخر، راكبين على موعد مع مقابلة في السفارة البريطانية؛ فعادت زمّارة الندم تضجّ؛ لأنّ العذر الذي تذرّعتُ به وأقنعت نفسي، أننا يمكن أن ننتهي من الحيّز اللبناني قبل غياب الشمس، قد تبخّر. تأخّر الراكبان، تذمّر السائق الذي لا يستطيع تركهما لمصيرهما؛ فقد جاءا معه، ولم يتقاض منهما أجرة الذهاب ارتباطاً بالعودة.

من بيروت إلى طرطوس
مرّت اللحظات عصيبة؛ الزّحام في شوارع بيروت، بيروت التي تعني الكثير، أو كانت كذلك؛ الآن لا تعني سوى بعض العنوانات المستفزّة، والإعلانات الفاقعة، والصخب الإعلامي.. إنها تعني الاحتشاء؛ بل الاحتقان في الذاكرة، والحذر والتوجّس والترقّب المرّ في الحاضر، وهو ما أراه في المشهد أمامي: عدم الانسجام في البناء والكتل الإنشائية، ينعكس في المواقف والكتل السياسية في الواقع الحالي، وكلّ حين، في ما يطوف في الذاكرة من حكايا ومآس وجراح وليال مِلاح!
متى ننتهي من بيروت، تترقّب سلال “التلفريك” لتتأكّد من عبور جونيه، ومن أنّها ما تزال تصّاعد، كما كانت حين امتطيتَها إلى حريصا ذات زمن كان زاهياً، وكنت حينئذ، على الرغم من الجمال الذي يراود من كلّ جانب، منقبضاً أنّ كلّ هذا الحضور السوري –هنا- قد ينتهي في لحظة، ولكنك لم تكن تتوقع كلّ هذا الحقد من الذين كانوا يسودون ويهيمنون باسمه! ورحت تبحث في الجهات كلّها عن جندي سوري وعلم سوري وملامح سوريّة كنت تراها أو تحسّها؛ لكن الوقت أظلم؛ فلم تعد ترى أو تفكّر سوى أن طرابلس على بعد يتقاصر، أمامك باب التبّانة وجبل محسن، الجبهة التي لا تكاد تهدأ، حتى تشتعل من جديد!
“بالأمس أنزل أربعة ركاب من سيّارة، وجُرّحوا، وضربوا بالرصاص في أرجلهم، وتركوا ينزفون ساعات..” قال السائق، وأضاف بقلق بادٍ لا نحتاج إليه ليتضاعف توتّرنا: “انظروا إلى الأعلام السوداء”؛ تلك التي لم يُضِئْها ما كتب عليها بالأبيض!
ألم يكن الانتظار أيّاماً في دمشق عاصمة الدنيا، أفضل من هذا التعرّض المجّاني إلى مصير غامض قاتم؟!
ليس الآن وقت التبكيت والندم؛ بل وقت العبور الشوكي، والتضاغط المرّ، الذي يزيده حديث السائق الذي لا ينتهي، عن الخطورة والمخاوف التي لم تنتهِ بعبور طرابلس؛ فهناك مدن أخرى ومسافة طويلة ما تزال..
تتردّد في الذاكرة أفكار ترجّع إيقاعات قاتمة، في طرقات لم تتوقّف عن عبورها على الرغم من كل ما حدث هناك، لكنّ ذلك يبدو الآن أمنية، أو حلماً! أصوات تتضاغط في فضاء يضيق، لا تسأل أحداً ممن هم حولك؛ فليسوا أقلّ منك رهبة، تحسّ ذلك من تعليقاتهم وأسئلتهم التي تتردّد في طرحها، لا بدّ أنّك تتوهّم، وتنشغل بما لديك من أقوال ولافتات لا تقلّ خطورة..
“كيف عبَرْتُم؟!” الجميع قالوا سمعنا وسكتنا؛ إذن لم يكن في الأمر وهم أو مُزاح!
هل تتنفّس الصعداء بعد الحدود، حتّى وأنت تعبر الحواجز، وحتّى لو سمعت أصواتاً كتلك التي كانت خلفك، وقد تكون في وقت آت؛ فأنت في البلد الأمين، وقد بتّ مشغولاً أكثر بالمفاجأة التي يحدثها مجيئك المختصر هذا، وقد تنشغل به وتفاصيله ساعات؛ لكنّك ستنشغل أكثر فأكثر بما رأيتَه وعشتَه إحساساً ونبضاً في عُمان؛
وفي حين ستغيب عنك أشياء، وتغيّب بعض الغُصّات ممّن كان يفترض أن يكون قبل الطريق، ستستذكر بعض العلامات الفارقة:
*تبلغ مساحة عُمان نحو 305 آلاف كم2، تضمّ تسع ولايات، وتمتدّ شواطئها على بحر عُمان وبحر العرب نحو 1700كم، وعدد سكانها مليونان ونصف المليون عُماني، ومليون وافد، ويعمل العماني ذكراً أو أنثى، في جميع المجالات والمهن صغرت أو كبرت، وغدت معظم الوظائف والمسؤوليّات بعهدة العمانيين بعد سياسة التعمين، وهناك تنوّع كبير في القوميّات والمذاهب؛ لكن المواطَنة غالبة على أيّ انتماء. الوعورة والتضاريس تشغل مساحة كبيرة من عُمان، وأهمّ نتاجها: التمور والأسماك، والنفط الذي بُدئ باستخراجه بشكل مهمّ مؤخّراً وبكلفة عالية.
*تشرق الشمس في عُمان على أوّل قرية من الوطن العربي “رأس الحدّ” في “صور”، وتشكل حدّاً بين بحر عُمان وبحر العرب، ومنها تشعّ على باقي الأرض العربية.
*اللباس الدائم لأيّ عماني وفي كل وقت، ولا سيّما في الوظيفة هو: الدشداشة أو الكندور، مع غطاء الرأس العادي أو المصرّ، مع الحذاء المفتوح بإصبع في الغالب. وهذا اللّباس يميّز العمانيين عن سواهم في أثناء العمل؛ فهو ممنوع على الآخرين! وفي الطقوس الرسميّة يتوضّع الخنجر في موقعه على البطن، وتصطحب العصا العُمانيَّ إلى اللقاءات الأكثر رسميّة.
*الحلوى العُمانية بألوانها الداكنة، وملمسها اللذيذ إضافة إلى طعمها، مميّزة ومشهورة، ويُحتفى بك معها في كلّ مكان تستضاف به، مع التّمور المتنوّعة.
*الاهتمام بالتراث حاضر بقوّة، في أيّ منشآت أو مقارّ، يشبه بعضها القلاع القديمة، ويشمل معظم الأبنية العادية.
*يعتزّ العمانيّون بمقاومتهم للغزوات العديدة، وطردهم للبرتغاليين والفرس وسواهم.
*من أهمّ ما يفتخر به العمانيون إضافة إلى صناعة السفن، منشآت الأفلاج التي كانت تؤمّن المياه في أزمنة الشحّ، وما يزال بعضها يعمل حتّى الآن.
*يتواشج بحر عُمان مع بحر العرب، وفي هذا دلالة عميقة، ويشكّلان امتداداً للمحيط الهندي.
*القرم شجرة مشهورة في مسقط؛ فهي تعيش حتّى في الماء المالح، وتتطفّل على البحر، وهناك محميّة لهذه الشجرة تضمّ غابة منها.
*أما الأبيض فحكاية عُمان التي لا تنتهي، وعنوانها المميّز؛ فهو يفيض على العناصر جلّها، وينتثر في الأحياز كلّها، ويشعّ من الكائنات ملامحَ وحركات وسكنات وكلماتٍ وغبطةً وحيويّة ونصاعة وشفافيّة ورضا.. لتكتشف بثقة وأثرة، وتعلن بشغف وحبور، وقد وجدتَها: الأبيض في عُمان ليس مجرد لون!
***
غسان كامل ونوس
نائب رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية

*المناسبة: اجتماع المكتب الدائم للاتّحاد العام للأدباء والكتّاب العرب في مسقط عاصمة عُمان 23-28/11/2013م
*ضمّ وفد اتّحاد الكتّاب العرب إلى الاجتماع، إضافة إلى رئيسِ الوفد نائبِ رئيس الاتّحاد، الأديب محمد راتب الحلّاق عضوَ المكتب التنفيذي.
*حضر الاجتماع نحو 63 أديباً من جميع الأقطار العربية التي تجمع أدباءها اتحادات وروابط وجمعيات وأسر؛ وهي؛ إضافة إلى الأمانة العامة: اتحاد كتاب مصر، الاتحاد القومي للأدباء والكتاب السودانيين، اتحاد الكتاب التونسيين، اتحاد الكتاب الجزائريين، اتحاد كتاب المغرب، الاتحاد العام للأدباء والكتاب الموريتانيين، الاتحاد العام للأدباء والكتاب الفلسطينيين، اتحاد الكتاب اللبنانيين، رابطة الكتاب الأردنيين، اتحاد الكتاب العرب في سورية، الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق، اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، رابطة الأدباء في الكويت، أسرة الأدباء والكتاب في البحرين، الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين.
فيما غابت السعودية وقطر اللتان تخلوان من تجمّع رسميّ لأدباء كلّ منهما، وقد دعاهما البيان الختامي من دون تسمية إلى تشكيل مثل هذا التنظيم.

اترك رداً