الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: باسم عبدو
الناشر: جريدة تشرين
تاريخ النشر: 2013-02-04

صدرت رواية (المآب) عن اتحاد الكتاب العرب عام 2011، للأديب غسان كامل ونوس، وهي الرواية الرابعة، والأديب ونوس متنوع الإبداع صدرت له عشر مجموعات قصصية، آخرها (في الضفة الأخرى – شرق وغرب) عام 2010 وهو شاعر أيضاً صدر له ديوانان شعريان، وأربعة كتب في موضوعات مختلفة.

ترصد (المآب) مرحلة مهمة من تاريخ سورية المعاصر، في أحد عشر فصلاً ومئتي صفحة، عبر محطات مكانية ثابتة ومتحركة وموكب يسير خلف سيارة الإسعاف. وأزمنة تتداخل من خلال استقدام الماضي، وتشخيص المرحلة بكل ما فيها من تناقضات فردية وجمعية، هناك من يعمل بإخلاص، وهناك من ينمي الفساد ويمارسه.. من يعمل من أجل تطور الوطن، ومن يعمل من اجل تخريبه.
ويكشف السرد الذي يطول أحياناً، ويتشعب في دروب فرعية، بدءاً من المشفى في موكب سيارات طويل، إلى محطة الوقود في مدينة مزدحمة والوصول إلى المقبرة.
يتفاعل الصراع في الرواية بين اتجاهين الأول يمثله أبو نضال الرجل المناضل، الذي وقف ضد الفساد والرشا والوساطة، هو الحزبي النظيف الذي لا يؤمن بحرق المراحل حلاً للمشكلات التي برزت فوق سطح الأحداث، ولا بالولاءات. انتسب إلى الحزب الحاكم عن قناعة وإيمان، ومن أجل تطور سورية والنهوض بها وتقدمها، والثاني، الذي يعمل في الاتجاه المعاكس لخط التطور، عمل من أجل جمع المال وسار في دروب الفساد.. وتسير الأحداث في تعرجات ومنحنيات في مرحلة معقدة والوصول إلى حالة من النزيف وانقسام المجتمع إلى أغنياء ازدادوا غنى، وفقراء ومهمشين انحدروا إلى مستوى خط الفقر وتحت هذا الخط.
إن رحلة الموت من الخروج من المشفى حتى المقبرة تعبر عن مرحلة متكاملة في إيجابياتها ومنعطفاتها وسلبياتها، وفي تعدد الأمكنة والطبيعة.
رواية (المآب) رواية سياسية – اجتماعية. استطاع الراوي (السارد أن يضع المتلقي في صورة الواقع المعيش، من خلال تسليط الضوء على أسرة أبي نضال وعلاقة عماد بهذه الأسرة وبكل التفاصيل الاجتماعية والسياسية، ومن خلال المونولوج واستقدام الأحداث، وتداخل الضمائر التي تعبر عن تداخل الأزمنة وتعدد الأصوات ومواقف الشخوص (أبناء أبي نضال) وبإيضاح آخر يظهر السرد بضمير الغائب (الراوي العليم) عند الحديث عن شخصية أبي نضال، وعلاقة الصداقة مع هذه الأسرة، والتعرف إليها عن قرب، بينما السرد بضمير المتكلم شكل مواجهة أو تقابلاً بينه وبين المتلقي وإلغاء الحاجز بينهما، إضافة إلى عنصري الدقة والصدق اللذين أديا إلى توثيق العلاقة وزيادة تفاعلها وإنضاجها أحياناً، وإلى تفككها وتناقضها في أحايين أخرى.
إن نماذج الشخوص التي عبرت عن مواقف متناقضة، أعطت سرد الأحداث حركة تفاعلية فنضال كان يعلق صورة (غيفارا) في الغرفة، في حين لم يتفق عماد مع أفكار الابن الثاني ومواقفه، أما (ثائر وثورة) فكانا يتذمران من الحياة وقسوتها، لم يوفر والدهما لهما وظيفة دائمة، وهو مسؤول التنظيم يجلس في البيت، يراقب ما يجري بألم وغير قادر على التصحيح والتغيير، ولم يقدر أن يحافظ على البوصلة التي سقطت من يده وربما تكسرت وتنمو أيضاً علاقة حب بين (عماد وبتول) لكن هذه العلاقة ظلت علاقة باردة لم تتوهج وعلى هامش الأحداث من دون أن تدخل إلى أعماقها وهي التي يمكن أن ينتج عنها تمتين الروابط أكثر، وأن تكون عاملاً مساعداً على شد الأحداث وتماسكها، وتحقيق التوازن بين العاطفة والروح من جهة، وما يجري في الواقع من خلل من جهة ثانية، أي أن تكون أشبه بالندى الذي يرطب الأوراق لا أن يزيدها جفافاً وقسوة..
حققت الرواية اتجاهاً سردياً تعددياً، بني على تعدد العلاقات وتنوعها بين عماد الباحث عن عمل بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية وأبي نضال، وبين عماد وأسرة أبي نضال، في داخل البنية الاجتماعية التي تشكل الأسرة نموذجها والتي تعبر عن حياة الناس، والحفاظ على الخط السرد الرئيس، بدءاً من المشفى حتى الحفرة في المقبرة، وما يعكسه الجمهور المرافق من تهكم وسخرية وثرثرة وتعليقات، وشكلت هذه الأحداث مجتمعة مشهداً (بانورامياً) يحيط إحاطة شاملة بكل تفاصيلها وجزئياتها وتفرعاتها، رغم حاجة المتلقي الملحاح إلى التكثيف. فالراوي كان يسهب في الشرح والمقدمات الطويلة، ويحاول من خلالها (ترويض القارئ)، لكن المتلقي كان يلهث للوصول إلى النهايات والخواتيم بسرعة أكثر.
إن اهتمام الروائي في شخوصه الرئيسة ولاسيما شخصية أبي نضال الأنموذج والمثال والشخصية المناضلة الطليعية والقدوة، من دون الحصول على منافع يتفرد بها مقابل جيش من المنافقين والمنتفعين والمتسلقين، هو سرد تطلق رئتاه أوكسيد الكربون بعد أن تضاءلت دفقات الأوكسجين، وأدت إلى الموت والرحيل، لكنها تركت أثراً طيباً سيحمل إلى الأجيال صحة هذا التاريخ النضالي في يوم ما، ويدلنا هذا على أن صيرورة الأحداث وتراكمها، هي محاولات لبناء (رواية السيرة), ويظهر ذلك من خلال الاهتمام والعناية بالشخوص وتاريخها الناصع المشرق، في ظل ظروف ينتصر فيها الوصوليون لتلبية رغباتهم ومصالحهم الذاتية، ومن المصفقين ورافعي الشعارات وأصحاب الأصوات العالية التي جرّحت حناجرها في المناسبات.
وفي الرواية مفصل تاريخي حديث، يكشف عن الأحداث التي جرت في عقد الثمانينيات عندما فقد حليب الأطفال والمناديل الورقية والخبز والأسمنت والعديد من المواد الاستهلاكية، أي في زمن الأزمة التي تراجعت بعض مكوناتها السلبية نسبياً في العقود اللاحقة، رغم استمرار تراكم الفساد وزيادة عدد الفاسدين والمفسدين ويتطرق السارد إلى أمور معروفة ومكشوفة للقارئ أو المواطن العادي، ويقول (المسؤول قبله كان وصياً على جميع المؤسسات، يأمر وينهي، لا أحد يرفض له طلباً).
يطمح الروائي في هذه التفاصيل في مرحلة مهمة وحرجة ومعقدة من تاريخ سورية، إلى تصحيح المسار في جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.

اترك رداً