شـــهادة تكريم من الأديب المهندس غسان كامل ونوس
رئيس المكتب الفرعي لاتحاد الكتّاب العرب في طرطوس
ما بين القلق والأمان مسافة تضطرم فيها الأحاسيس، وتتنازع الأمنيات، لتسود حال مرتجاة من التوازن الذي لا يعني استسلاماً، ولا يلغي أوار اللحظات، أو ينفي دقة الملاحظة، وحدة التأثر وصرير الانفعال.
ولكنه يدل على وعي بالفواصل والحدود, وإيمان بالقدرة على التعالي على الصغائر، وتجاوز المحرمات، والاستهانة بالمرغبات التي تتصاغر باطراد أمام صلابة العزيمة، وصرامة الالتزام، والثقة المحصنة بالقناعة والفهم والوعي والإيمان.
إنها محاولة لتمثل حال عبد اللطيف محرز الإنسان. كما سمعت به قبل أن أعرفه، وعرفته أكثر مما سمعت عنه.
وإذا كان العمل في ميدان الأدب يختلف عن ممارسة الأدب بأجناسه، ويختلف أكثر عن العمل في ميادين أخرى اشتغل فيها الأستاذ عبد اللطيف، لأنه على تماس مع شريحة يتميز أفرادها بدرجة عالية من الحساسية –أو يفترض ذلك- تلك التي تتواءم مع حال الإبداع، أو تطلقه؛ فإن مسار الأستاذ عبد اللطيف محرز مع الأدباء والمثقفين كان آمناً. وهذا دليل مرونة وتفهم واستيعاب ودماثة وأخلاق لم تكن لتخفى واحترام متبادل لا يشوهه اختلاف في الرأي حول ما يمكن عمله لتفعيل الحال الثقافية. ولا يفرط به تفاوت الحماسة تجاه هذا النشاط أو ذاك، ولا يلغيه تباين في النظرة إلى جنس أدبي أو آخر.
ومن المعروف لدى الأستاذ (أبي نزار) أنه لا يقف في وجه مبادرة محسوبة، ولا يمانع فعلاً إذا ما استطعت إقناعه بجدواه، ولا يماحك في ما لا يفيد، ولا يتردد في قول رأيه في الوقت المناسب مقدراً الجهد والعطاء، ومقوماً النتيجة غير خائف في الحق لومة لائم.
ولعل في إيمانه بأن للثقافة دوراً يجب أن تعطاه، وفي ثقته بالكتاب والكتابة، وفي تماهيه الكلي في فضاء القراءة والإبداع مؤخراً، وحماسته واندفاعه للمشاركة في غالبية النشاطات، وتلبيته جميع الدعوات داخل المحافظة وخارجها، لعل في ذلك مثالاً يحتذى.
وفي الوقت الذي يتمسك فيه الكثيرون بظلال الكراسي، ويركضون وراء أصداء المناصب حتى الرمق الأخير أصر الأستاذ عبد اللطيف محرز على أن يترك رئاسة فرع اتحاد الكتاب العرب بطرطوس ليتفرغ للموهبة والهواية اللتين ظلمتا طويلاً بانشغالاته الأخرى المهمة خلال عقود. واستقال رغم إلحاح قيادة الاتحاد بدمشق على استمراره، وإلحاحنا نحن أصدقاءه ومشاركيه هذا الدرب الشائق الشائك على بقائه في مقدمتنا. وظل في مقدمة من يحضرون النشاطات، ويشاركون في المناسبات الثقافية. وهو من القليلين بل النادرين الذين يغادرون مواقعهم المتقدمة في المؤسسات، ويعودون للمساهمة في فعالياتها بكبر وثقة ومحبة وتواضع. دون حساسية الفوق والتحت، والأكبر والأصغر، والقبل والبعد.
وفي هذا مثال آخر جميل أن يحتذى؛ في حين يتواجد في المؤسسة ذاتها من لا يحضرون إلا النشاطات التي لهم فيها نصيب.
ولا يتردد الأستاذ عبد اللطيف محرز في امتداح الخصال التي يراها إيجابية في الآخر تحفيزاً على المثابرة، وبعيداً عن حساسية المقارنة أو الغيرة أو الأنانية. وتلك ميزة ليست كثيفة الحضور لدى الكثيرين الذين قد يبحثون عما يشوه السيرة، ويحور اللون الناصع لغايات قاتمة. تلك بعض خصال الإنسان عبد اللطيف محرز؛ وخصال أخرى كثيرة: شديد الحرص على ما أتمن عليه، قليل الكلام فيما يضر، لا متملق، ولا طالب شهرة إعلامية، أو نجومية، أو اهتماماً مبالغاً فيه، ولا مدع أو مغرور؛ قانع بما لديه، مكتف بما له، مؤد ما عليه، وفيّ لوعوده، محترم كلمته، صدوق صديق..
أما في مجال الأدب والإبداع الأدبي فالحديث يطول. وسأترك الكلام في ذلك لزملائي المشاركين في هذه الندوة. لكنني سأشير إلى أمر هام وهو تشجيعه للمواهب، واغتباطه لكل عمل أو نشاط أو إنجاز ثقافي. وفي الوقت الذي برع فيه أبو نزار في الشعر الذي يأخذ شكل العمود، فإنه لا يقصر عن الاهتمام والاحتفاء بأي نص إبداعي في أي شكل آخر. وهذه ميزة هامة أخرى؛ فكثيرون يحاولون إلغاء الآخرين الذين يكتبون وفق نظام مختلف، بل حتى في النظام ذاته الذي يكتبون فيه، إذا ما أحسوا بجودة قد تؤثر على موقعهم وما ينجزون.
أيها الزملاء والأصدقاء:
ثمنت قبل أيام وفي هذا المكان بالذات حال الوئام التي تسود الجانب الثقافي من الحياة في هذه المحافظة. ومما لا شك فيه أن للأستاذ عبد اللطيف محرز دوراً مهماً في هذا، منذ حضوره في هذا الميدان. واحتراماً له وتقديراً ندعو إلى استمرار هذي الحال الأليفة الودودة، وتفعيلها. دون أن يعني هذا بحال من الأحوال الاستقرار الإبداعي، أو المجاملة النقدية أو المحاباة الفكرية. بل يعني في مختصره احترام الآخر رأياً وموقفاً ونتاجاً وسلوكاً؛ شرط ألا يكون في الأمر الإساءة والمضرة.
أيها الإخوة:
إن هذا التكريم ليس تنفيذاً لإحدى غايات اتحاد الكتاب العرب وبرعاية السيد الدكتور علي عقلة عرسان رئيس الاتحاد، فحسب؛ بل هو تواصل مع حال التكريم التي كرسها القائد الخالد حافظ الأسد للثقافة والمبدعين، ويؤكدها السيد الرئيس بشار الأسد باستمرار، وقد تابعنا منذ فترة قريبة تكريمه لكوكبة من المبدعين.
ونحن في فرع اتحاد الكتاب العرب بطرطوس، حين نكرم الأستاذ عبد اللطيف محرز رئيس فرع الاتحاد السابق، فإننا نكرم قيم الالتزام والاحترام والأخلاق والإبداع فينا نحن أبناء هذه المحافظة الثرة بالمواهب والمبدعين في كل المجالات، ومستذكرين أدباءنا الراحلين، مثمنين عطاءاتهم، وسيرهم الطيبة. وناظرين بود واحترام إلى أدبائنا الذين لا يزالون يخوضون في مسارات الإبداع المتعددة، من كرم منهم، ومن لم يكرم بعد.
ونعبر عن قناعتنا بضرورة تكريس مثل هذا الطقس للأحياء كما للمتوفين، واقتناعنا بجدواه وطيب صداه.
وفي الختام أقول:
ليس هذا التكريم كثيراً عليك يا أبا نزار؛ بل إنك تستحق كل تكريم. وقبل ذلك وبعده، تستحق كل احترام.
الأستاذ عبد اللطيف محرز العربي الإنسان الشاعر الصديق:
عمت إنسانية وخلقاً وسيرة حسنةً وعمراً عامراً بالصحة والعافية والسعادة والرضى والأمان والإبداع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.