الفئة: ما كُتب عنه
بقلم: مفيد عيسى أحمد
الناشر: ملحق تشرين- أبواب
تاريخ النشر: 2011-01-09

الصفحة الرئيسية
الافتتاحية
سياسة
اقتصاد
محليات
تحقيقات
ثقافة
كتاب ودراسات
رياضة
مجتمع
زوايا وأعمدة
Syria Millennium
منبر تشرين
المزيد

بحث متقدم

09/01/2011

« في الضفة الأخرى» سرد بخط بياني لحياة متشعبة
مفيد عيسى أحمد
السمة الغالبة لقصص غسان كامل ونوس «في الضفة الأخرى» (دار شرق وغرب- دمشق)، هي أن الحدث فيها لا يجري أفقياً، بل يمضي بروائز عميقة تغور في نفوس شخصياتها، تنطلق من اللحظة القصصية، احتدام الحدث أو الذروة، بما يشبه حزمة أشعة تتشعب كاشفةً ملابسات وخلفيات هذه اللحظة بارتداد زمني، وتتضافر باتجاه معاكس ملتحمة لتبئير الحدث في راهنه.

ليس أي حدث أهل لتتم معالجته على هذا الشـكل، هذا ما يتضح من المواضيع التي تستفزّ الكاتب وتسترعي اهتمامه لرصدها ومعالجتها، فمن (هامش الحياة، هامش الموت) مجموعته الأولى، بدا شغوفاً بمواضيع خاصة تميز بمعالجتها وتقليبها وذلك باستبطان ظاهرها، وتلمس ما يعتمل في نفوس الشخصيات وما ينعكس جراء ذلك على المجال الحيوي للقصص. ‏

تأتي مجموعة في الضفة الأخرى القصصية لتؤكد هذا النهج، يتبين ذلك من عتبتها، أي القصة الأولى منها المعنونة (العتبة) الحدث في هذه القصة بسيط في ظاهره عميق ومتشعب في تداعياته ومتلازماته. في الفعل، لا يعدو اجتياز عتبة معينة غير أن هذه العتبة هي مجال لتحول كامل، إنها مواجهه بكل حيثياتها، للذات وللآخر، تبدو شخصية القصة متأرجحة على حدها موزعة على تناقضاتها. هي على العتبة، داخلة أم خارجة…؟ تعبر أم لا، معلقة بين تأكيد الذات وتماهيها، حالة نكوص أم توثب..؟ ‏

تتضح ماهية العتبة، العتبة الموازية للعتبة الملموسة، أو ربما الهوة قبيل نهاية القصة (وأنا أنقل قدمي فوق العتبة التي تتعارض لتصبح مسافة قصوى، قد أحتاج إلى وقت أكبر وعمر آخر أو أعمار لعبورها، وتزدحم بها الأجساد والأقدام والزفرات واللهاث..و تضيق أحياناً أخرى حتى تصبح مثل شعرة) ليست عتبة واحدة بل عتبات تخلص إلى عتبة النهاية، كلها لم تنل من تسامق بطل القصة الذي يواجه هذه العتبات إلى آخرها. ‏

إنها مواجهة تتكرر في أغلب القصص، حيث تتنازع شخصياتها حالات تقف وحيدة في تعاطيها معها، كما في قصة (قمر) التي يواجه فيها شخصية القصة ذاته والآخر، مسقطاً ذلك على ما حوله، يواجه الآخر من خلال ذاته، وذاته من خلال الآخر، ويعمم تلك المعادلة على الفضاء المحيط به، فهو لا يحوز الوحدة المشتهاة ولا الحرية، رغم الظرف الذي يتيحها، حيث يبقى تحت تأثير حضور الآخر في ترجيع ينعكس فيما حوله من تجليات الطبيعة. ‏

والطبيعة ليست شاهداًُ فقط بل فاعل، يتضح ذلك في قصة (في الضفة الأخرى) التي أخذت المجموعة تسميتها، حيث يحول المسيل، الطوفان، بين شخصية القصة وجمع أهل القرية، هو على ضفة وهم على أخرى، والضفة هنا ليست ضفة المسيل فقط، والمسيل ليس مجرد مجرى ماء، هو كناية عن صيرورة الحياة. وتبدلاتها من السكون والسلبية (سرير النهر الجاف والمهجور) إلى الحركة والفعل (الطوفان). ‏

الجمع هنا رهن بحالة الاستلاب والتردي، وهو رهن مبدأه الذي يدفع ضريبته بغربته عنهم بدءاً بأقرب الناس، زوجته، هو يبدو كضميرهم، يبحثون عنه ولا يبحثون، ما يفصل بينهم الطوفان، وهو كما العتبة في القصة السابقة، لا بد من عبوره، لكن بأي اتجاه…؟ ‏

هم من سيعبر أم هو، نهاية القصة تخلص على أنه هو، وهي حالة إيجابية لكنها تبقى معلقة. ‏

تتكرر هذه المواجهة لكن بتماس مباشر في قصة (الدليل) هي لم تكتمل، لكنها بدأت منذ بداية القصة وانتهت وهي معلقة على وشك التأجج، ليس من المهم أن يحدث ذلك فعلاً، لأنه لا يعدو سعياً لنتيجة لا طائل منها. ‏

الاغتراب هو العامل المشترك في هذه القصص، وهو الأزمة التي تعانيها شخصياتها بعلاقاتها بمحيطها الاجتماعي مع تغير نمط العلاقات والقيم السائدة، وعدم انسجام تلك الشخصيات مع التغيرات الحاصلة، هذه الأزمة تصل لحد الاستغلاق والانفصال عن المحيط وحتى عن الذات، هذا هو محور قصة طنين، التي تسهب في تصوير هذه الحالة وتحليلها، أما قصة مثلثات فالأزمة فيها تأخذ منحى التشويش في التواصل، فكل فعاليات الحياة وتجلياتها، تتمظهر مثلثات بأوضاع مختلفة، هذا ما تحيلها إليه أحاسيس شخصية القصة، وهي بدلالات مختلفة، الانكسار، التلاقي، النفور، التحديد، الارتكاز، النشوة، الخصب، الكبت، الحصار.. المثلثات هنا هي الحياة في ثلاثة خطوط. ‏

قصة (الخروج) تتقاطع مع قصتي (العتبة) و(في الضفة الأخرى) في حالة العبور والتحول. هي هنا نزوع للخروج من حالة الكمون إلى الفعل، مع اختلاف حدي الحالة، التي سيخرج منها والتي سيخرج إليها. وكيفية النهاية التي أتت انكفاءً وارتداداً. ‏

لقد فرضت مواضيع القصص نمطاً من السرد بما يوافقها ويناسب معالجتها، فأتى السرد تحليلياً حافلاً بالتفاصيل وأعمق من ذلك أحياناً، فوصل إلى درجة التنقيب والتفنيد، ملتمساً عدم إغفال أدق حيثيات الحالة التي يتناولها. ‏

في كل القصص، أتى الحوار(الديالوج) مقتضباً، والمونولوج مسهباً، والسبب أن القصص بنيت على التداعيات التي تنطلق من الأنا باتجاه الآخر، وهو، أي الآخر ليس حاضراً زمناً في أغلب القصص، بل تأثيراً وذكرى. إنه حضور ترجيعي، تحييني، يمارسه بطل القصة ليقصيه فيما بعد أو يعلقه بما تقتضيه القصة. ‏

لغة القصص في أغلبها أقرب للغة التحليل، وهي صفة لم تنل من جماليتها الأدبية، يلاحظ استخدام الكاتب لاشتقاقات لغوية تبدو من قاموسه لأنها تتكرر في قصصـه، منها (يتغارز، يتشارس، تتصاوت، تتناهض، يتغالظ) وكأنها تعني القيام بالفعل شكلاً، أي إن القائم بالتغارز يتظاهر بذلك، أو أنه يتحامل على نفسه ليفعل ذلك، أو يحرض مستمداً دوافع الفعل من عوامل خارجية. ‏

القصص تنتهي ولا تنتهي، حيث تبقى الحالة معلقة، وكأن السرد يرتسم خطاً بيانياً، يحدد نقاطه محوراً الأنا والآخر، ليصل إلى نقطة ما وينقطع بانتظار بيانات لنقاط جديدة، تعادل نقطة التوقف نهاية القصة وهي كما أسلفنا، نهاية باحتمال البداية، هذا يترك القارئ في حالة ترقب وتحريض على المشاركة فيما بعد النص أي فيما يتوقع أن يحدث، ومما يجعل القصص أكثر تأثيراً وديمومةً. ‏

المجموعة، اشتغال جاد وموفق على سرد مختلف ولغة مغايرة، مع الاحتفاظ بجمالية الأدب وطلاوته.‏

|

اترك رداً