2012-09-13
في الزمن الراجع
وجدت بعد قراءتي مجموعة” في الزمن الراجع” لغسان كامل ونوس الصادرة عن ” عروة للطباعة ” في طرطوس عام 2007 ما يستحق الاهتمام من حيث محاولاته الجريئة في استقصاء الهم السياسي والاجتماعي والإنساني ومن حيث شغله على اللّغة والموضوع والحالة ومحاولته التجديد والتنويع في السرد.
يغطي غسان مساحة واسعة من هموم الإنسان البسيط الذي يبحث عن الأمان والسعادة لا أكثر، وعن من يتمسك بقناعات بالعلن والتنصل منها في السر،تعرض للأنثى بكل تلوناتها وأحاسيسها الريفية البسيطة المثقفة التي تحاول اختراق أسيجة العادات والتقاليد ، وتغوص في أعماق المرأة المثقفة المكافحة المناضلة في لحظة شجاعتها ، ويكشف ذرى إنسانية شفافة في رؤى شخصياته،ولعل أكثر العواطف الإنسانيّة رهافة ورقةً تتجلى في قصّة ( العزاء) ففي هذه القصة تنساب اللغة شفيفة تبوح بدواخل الأب وطموحاته ومعاناته فهو الأب الحنون والزوج المخلص على الرغم أنه تزوج من لا يحب : ( لم نكن على وفاق تلك حقيقة يعرفها القريبون والبعيدون . حتّى حين كانت على مشارف الولادة الأولى ، كنا على شفا حفرة … ) ص90 والإنسان المتطلع إلى الانعتاق من بوتقة السائد الاجتماعي نحو ابنه المعاق والبحث عن إنسانيته التي تتغلب على عاطفته ومرارة عيشه فهو يقوم على خدمة عائلته ورعايتها ويحس بالتقصير دوماً وتأنيب الضمير تجاه أبنائه الذين تولت زوجته تربيتهم وانشغاله عنهم في عمله لتأمين لقمة العيش لهم :
” ـ من يخفف عني هم الأولاد وإلحاحك ؟!
قلت مصابراً ، مستذكراً مواقف حادّة ، حين كنت أعود من عملي مرهقاً من عنت المراجعين ، ورعونة أصحاب الحاجات فوق وتحت ، ناسياً ما ألحت علي كي أحضره ، فتثور ، وترفض الجلوس إلى المائدة . أو تحرد، فتغيب في أكثر الأوقات ضيقاً ” ص91
وقصة” في الزمن الراجع” التي حملت عنوان المجموعة، يصور لنا الكاتب بصورة شاعرية معاناة الرجل ” الشخصية الرئيسيّة ” في القصة الذي أحب أمراة منذ كانت على مقاعد الدراسة يرقبها من بعيد ويهيم بها فينشغل بالدراسة وتحصيل الشهادات العلمية فتتزوج غيره وهي بالأساس قد لا تكون أحبته أو رأته أو أحست بوجوده ، في هذه القصة تألقت اللغة وكانت هي البطل الحقيقي للقصة ، وقد فعّل القاص كل مقومات القص من شخصيات وزمان ومكان وحدث فترك الراوي المخاطِب العليم يبوح عما يجول في صدره من أحاسيس ومسيرة حياته : ( كنت تحرس ابتسامتها الغامضة ، ومشيتها الواثقة ، من جميع النظرات المواربة ، والتعليقات الصريحة . تظن أنك تفعل ، لتسوغ ، أو لتسعد ، أو لتحس بالجدوى .. الجدوى التي بحثت عنها طويلاً ، وفي مجالات عديدة ، وما تزال تبحث عنها ، من دون جدوى ! ) ص128
استخدم القاص تقنية الوصف التي شكت استراحة أو قطع لسيرورة الزمن وبلغة شفيفة شاعرية : ” هذا الشارع مسكون بالريح الشرقية ، كمسيل شتوي زاخر . لم تكن تلك الريح حتّى في أو ج اشتدادها تثنيك عن مشوار الرجوع ، رغم قدرتها على تسريع الهياكل التي تتجمع وتتبعثر بلا انتظام ” ص130
يصر غسان على التنويع الشكلي الذي يتجلى في تقديم الحدث عبر اتباع أساليب تختلف بين قصة وأخرى ففي قصّة(( ثقب أسود )) يقدم الحدث عن طريق السرد المباشر :
” قذفها من بين أصابعه ، رنين ارتطامها بالإسمنت تواشج مع الوقع الخاص لنبرته ، كنت ألاحق الصدى متمنياً أن تمكث قطعة النقود طويلاً تحت السرير الخشبي” ص139 لكن القاص ينحو في المقطع الأخير من قصّة ” طاقة منحى آخر إذ تأتي النهاية الحديثة على شكل رموز وإحاءات زيّنتها اللّغة الجميلة التي تتصف بها قصص غسان:( صوت عزيز يدوم في فضاء الوعي الخامل ، يستحثه دويُّ يتكرر، بعد ومض يتواتر ؛ قصف أم رعد ؟! آه .. أصوات تتنافر في الذاكرة ، رصاص أم برد ؟! زخات متلاحقة تأتي وتروح ، لكنها تتكرر، تتزايد من كل الجهات . لا سبيل للسؤال ؛ لا وسيلة للتواصل . الصدأ يبطن أطياف الروح ، التساؤل يتغلغل في طيات العفن والغفلة . وشيء ما ينغل في خلايا تحاول التفتح ! شيء كالحنين إلى صوت ما ، أو صدى . شيء كالندم ينخر صلابة التجاهل والعناد ، نبض ما يبحث عن منافذ عبر الزمن الكتيم ، والفضاء الصلد ، والأعضاء الملبدة .. تتوق كالاستغاثة: النجدة النجدة .. ) ص57 ـ 58
وعلى الرّغم من أن القاص ينجح في تقديم حكايات جيّدة لقصصه فإنه سرعان ما يستسلم لإغراء اللّغة الشعرية المستفيضة التي نلمسها في قصصه ففي قصة” في اللجة ” يبدأ القاص قصته بلغة شعريّة ذات إيقاع موسيقي مبني على رؤى تصورها أو تشكلت لديه بعد أن سمع الكثير عن البحر : ( لم أكن صياداً ، لم أدرْ دفة المغامرة صوب العمق ، لم تفاجئني التيارات الضارية ، أو تهددني الأمواج على شفا النعاس التعب ، ولم أنحشر بين حيّزين يختلفان ملوحة ولزوجة ، ويقتربان ملا مح وألواناً وجاذبية وعمقاً وغموضاً.. ) ص69 وينهي القصة بخطابية مباشرة 🙁 هو البحر ؛ أهذا ما جذبك إليه ؟!
فكيف إذا ما امتلأ المشهد الذي تشتهي ، ويستحق أن تصدّقه ، ويستطيع طيفه أن يدعوك فتلبي ، ويكفي ملمح منه أن يزجك في أتون التحفز والاندفاع ، حتّى لتكاد تغرق في اللجة ! ) ص76
من يقرأ قصص غسان ونوس يظن لوهله أنه فقط كما ذكرت سابقاً يعتمد اللّغة الشعرية أساساً لها وهذا فيه الكثير من الصواب لكن هناك لمحات قصصية وحكايات وأحداث متنوعة تدل على مقدرة كاتبها على الإمساك بخيوط القص بشكل يجعل منها ذات وقع سردي نثري يترك أثراً في النفس ويجعل المتلقي أو القارئ يحلق في فضائها القصصي ففي قصّة” ” تظهر الحكاية التي غلفت بثوب شفيف من اللّغة التي ابتدأت بها القصة لكن سرعان ما يتواتر الحكي متداخلاً مع الحدث نهاية القصة : ” تراجع إلى الجدار أسند إليه ظهره. الباب الموصد في مواجهته، والعصا في يده .. يهزّها مسدداً باتجاه ما! ” ص48
بقي أن أشير إلى أن غسان كامل ونوس استخدم تعدد الأصوات في قصصه فتارة نجد الراوي الموضوعي ” الغائب ” كما في قصص ” العصا ـ طاقة ـ التابع ـ ثقب أسود ” وأخرى نجد الراوي الذاتي المشارك في القصة والذي يتحدث عن نفسه وغيره كما في قصص ” رؤيا ـ قبل الوصول ـ الجثة ـ في اللجة ـ العزاء ـ الموعد ” وثالثة يكون الراوي مخاطِب وكأنه يتحدث إلى أحد أمامه ، كما في قصص ” في الزمن الراجع ـ ولدي ” وقصّة واحدة استخدم القاص فيها صوتين للراوي وهي قصة ” شهامة ” حيث سرد لنا بداية القصة الراوي الموضوعي ثم سرد على لسان الراوي المخاطِب .
إننا باختصار ، نطالع في مجموعة القاص غسان كامل ونوس ، كثيراً من الرؤى الإنسانية النبيلة ، والمواقف الوطنية والاجتماعية المعاشة،وكثيراًمن محاولات التنويع الشكلي التي تمتع المتلقي بلغتها الشعرية.
أحمد جميل الحسن
2007 جريدة البعث جميع الحقوق محفوظة Powered by Platinum Inc.